شبح من الماضي "شانتيل شاو" الجزء5

شبح من الماضي "شانتيل شاو" الجزء5

صدمة ومفاجأة

   تسللت أشعة الشمس الفضية الباهتة عبر الستائر وانحرفت على الوسائد ، ففتحت غرايس عينيها متنهدة بنعومة . منظر وجه خافيير القريب جدا من وجهها جعل قلبها يقفز من مكانه ، تماما كما يحصل كل صباح طيلة الشهرين الماضيين .                          الشهران اللذان أمضتهما غرايس في قصر الأسد مرا بسرعة . لكنها عوضا عن ان تتمنى مرور الأشهر العشرة الباقية بالسرعة نفسها ، وجدت نفسها تتمنى لو يقف الزمن في مكانه . ما الذي يفعله بها هذا الساحر الذي أوقعها تحت تأثير لعنته؟ حدقت غرايس بخافيير ملاحظة كيف تحتك رموشه الطويلة السوداء بخديه . بدا خافيير خلال نومه أكثر استرخاء، بل يكاد يكون صبياني الملامح ، فأحست بقلبها ينتفخ بالاحاسيس . عندما التقته لأول مرة اعتقدت أنه أحد أفراد عصابة الشيطان ، لكنها ادركت منذ الشهور الاولى لزواجهما ان الدوق دو هيريرا يمتلك قلبا بالفعل ، لكنه ببساطة يبقيه مخفيا تحت قشرة ظاهرية من اللامبالاة الباردة . رفعت جسمها لتستند على مرفقها حتى تدرس ملامح وجهه بوضوح أكبر . أقرت حينها أنه ليس باردا تجاهها ، فهو يمضي الكثير من الوقت برفقتها رغم انشغاله الدائم في مكتبه او في مكاتب مصرف هيريرا في غرناطة . غالبا ما كان يأخذ استراحة فيطلب من غرايس ان تتمشى معه في اراضي القصر أما خلال العشاء كل ليلة فبدا خافيير رفيقا محببا يتمتع بخفة الدم ،وراح يغازلها مداعبا بغير خجل . وهو أمر جعلها تتوق للموافقة على الدعوة الجريئة الواضحة البادية في عينيه .                           لكن منذ الصدمة التي تلقاها أثناء شهر عسلهما لم يبذل خافيير أية محاولة أخرى لإقامة علاقة زوجية مع غرايس . كما انه لم يعد يعانقها إلا امام موظفي القصر ، وافترضت انه يفعل ذلك لتدعيم الاعتقاد لدى الآخرين بأن زواجهما حقيقي ، وذلك أيضا هو سبب إصراره على نومها في سريره . أما حالما يصبحان بمفردهما كل ليلة ، فخافيير يحاذر تماما ان يلمسها.  فكرت غرايس بائسة انها لا تستطيع اتهامه بالتصرف الخاطئ . كان يصعد الى السرير ،فيغفو بعد لحظات من اطفاء الاضواء ، في حين أنها تبقى صاحية معظم الليل ، لأن رغبتها بالانزلاق بين ذراعيه تعذبها. الانجذاب الحسي ، الحب .... إنها مرتبكة جدا . ما عادت تعرف أين تنتهي الاولى فتبدأ الاخرى . حين وافقت غرايس على عرضه بالزواج عاهدت نفسها بألا تقع في غرامه ابدا ، أما الآن لم تعد واثقة تماما من ذلك . أقرت بكآبة أن افكارها تأخذ منحى خطيرا ، ثم انقلبت على ظهرها فحدقت الى الاعلى . يوما بعد يوم أخذ خافيير يجتاح قلبها ، لكن لا مجال ابدا لأن يحبها هو بدوره . بعد مرور عشرة اشهر من الآن ، سوف يطردها من حياته بالقسوة الفعالة ، وعدم الرحمة اللتين يتميز بهما .  -صباح الخير عزيزتي . هل نمت جيدا؟  هل سبب هذه النبرة المغيضة نوعا ما في صوت خافيير ، هو ادراكه أنها امضت ساعات وهي تتقلب في السرير ، فيما يعاني جسدها من الإحباط؟ فكرت غرايس بذلك عندما أدارت رأسها لتلاقي نظراته اللطيفة . أكدت غرايس له مبتهجة :" نمت كالميتة ، فقد حظيت بليلة رائعة خالية من الازعاج".  -أحقا؟ ظننت أنك حلمت بكابوس ما، نظرا لكثرة تلويك في السرير .  -لم أكن أتلوى .  جلست غرايس باستقامة وحملقت بخافيير ، فيما اشتعلت وجنتاها عندما لاحظت الوهج الماكر في عينيه . علق خافيير برقة :" لعلني كنت أحلم ، اذا . ليتني لم استيقظ ".  وضع ذراعيه في وضعية الدفاع عن النفس عندما انتزعت غرايس وسادتها فضربته بها . -حسنا! أنت ترغبين باللعب . أليس كذلك؟  ابتسم لها خافيير ، وفاجأها حين اخذ الوسادة منها بيسر مهين ، ثم قلبها على ظهرها ووهج الإغاظة في عينيه ، لكنه ما إن حدق بها نزولا حتى تلاشت تلك النظرة ، قال :" تبدين جميلة جدا عزيزتي ، وأنا تحليت بالصبر كثيرا بالبقاء على جهتي من السرير".  غمغمت غرايس بصوت ابح :" انت لست على جهتك من السرير الآن ".  أحست بردة فعل جسدها الفورية على احتكاك جسمه بها . -وأنت كذلك . نحن لسنا في أرض أي شخص ، حيث لم تعد تحتسب قوانين الحرب .  -أنا لست في حرب معك .  سقطت خصلة شعر على جبين خافيير ، فأطلقت غرايس تنهيدة ضعيفة الحيلة ، واستسلمت إلى رغبتها بتمسيدها الى الخلف ، بينما ارتعشت اناملها قليلا وهي تمررها من خلال الشعر الحريري الأسود الغزير . كم هو رائع ووسيم! إنها لا تستطيع أن تفكر بشكل صائب وهي على مقربة منه . يجدر بها ان تدفعه بعيدا عنها ، لكنها عوضا عن ذلك لفت يديها حول كتفيه . ثم همست بخجل :" ظننت أننا أصبحنا صديقين ".  -صديقين؟!  أطلق ابتسامة نحوها جعلت الأنفاس تعلق في حلقها،  وقال :" وشركاء في المنامة. بالرغم من أنه من المنصف ان اقول ان أيا منا لا ينام كثيرا . هل توافقين عزيزتي؟"  من غير المجدي ان تنكر ذلك ، في حين أنها تكاد تذوب شوقا إليه ، فقالت :"نعم" . ابتلعت غرايس ريقها لدى رؤية الدفء اللامع في نظراته . راقبته وهو يخفض رأسه ببطء ثم يطلق غمغمة خافتة قبل ان يعانقها .  -خافيير ....!  دفنت غرايس وجهها في عنقه حين همست بأسمه . غمغم خافيير قائلا :" أنت تتوقين إلي غرايس كما أتوق إليك ".  بدت نبرته شديدة الصراحة الى درجة اضطرتها الى التركيز على كلماته ، فتابع :" من يحتاج الى الحب في حين أننا نتشارك بشغف عميق وحاد كهذا؟"  -أنا أحتاجه .  أغمضت غرايس عينيها واجتاحتها موجة من اليأس لرؤية الاحباط القوي البادي في عيني خافيير ، ثم قالت بكآبة :" أنت موهوب في فن الاغواء خافيير ... لا شك أنك حظيت بالكثير من التمرين . لكن من دون الحب والثقة ماذا يبقى لدينا ، سوى بضع لحظات من المتعة الفارغة؟" صرخت بقوة عندما حذرتها عضلات كتفيه وقساوة تعابير وجهه ، بأنه على وشك أن يفقد السيطرة على ذاته ، فقالت :" خذ جسدي إذا اردت! لن اتمكن من منعك لو حاولت ، كلانا ندرك ذلك . لكنك ستقوض كل ما تبقى لي من الاحترام الذاتي ، خصوصا بعد الاشياء التي فعلتها مؤخرا".  تراجع خافيير الى الوراء كما لو انها صفعته ، ثم سألها بوحشية :" أية اشياء؟ غرايس ، هل تخجلين من زواجك بي؟"  أقرت غرايس بصوت ابح :" أنا لست فخورة بالكذب. ولا افخر بالتعهد بنذور كاذبة في الكنيسة ، في حين أنني أعلم بأنني لن أفي بها مطلقا . لكنني أحب والدي أكثر من أي شخص في العالم . ما كان يجدر به ان يسرق تلك الاموال منك ، لكنني أفهم لما فعل ذلك . عانى والدي الأمرين عندما خسر والدتي ، وكرامتي ليست سوى ثمنا زهيدا أدفعه مقابل أن يسلم والدي من الحكم بالسجن".  زمجر خافيير ساخرا :" أنت تتمتعين بالمبادئ أكثر من اللازم . لعله أمر جيد أنني راحل من هنا لبعض الوقت ".  أرجح رجليه من فوق حافة السرير قبل أن يمشي بخطوات واسعة نحو الحمام المتصل بغرفة النوم .  -راحل؟ إلى أين؟  -إلى مدريد . لدي سلسلة لقاءات عمل في المكتب الرئيسي للمصرف . لدي ايضا عدة دعوات اجتماعية .   ردت غرايس بنبرة لاذعة ، وقد آلمها مقته المرير :" ألن يستغرب اصدقاؤك حضورك بمفردك؟"  رد خافيير من دون مبالاة :" سوف افكر بعذر ما لتغيبك .... سأقول إنك مريضة أو ما شابه . بالرغم من انني اخشى ان يعتقدوك حاملا".  قال ذلك متهكما ، ثم تابع :" على أي حال ، لن اكون بمفردي فلوسيتا ذاهبة برفقتي . أقنعت والدها بأنه حان أوان ظهورها على الساحة الاجتماعية في مدريد".  أجبرت غرايس نفسها على ان تبدو غير مكترثة ، لكنها راحت تغلي من الداخل بسبب المشاعر المضطربة ، فقالت :" وهل تم تعيينك جليسا للأطفال لترعاها؟ كم يبدو ذلك متعبا بالنسبة إليك".  -أنا واثق بأنني سأحيا ، فلوسيتا على الأقل تعرف كيف تمضي وقتا ممتعا . -أراهن أنها تفعل . أليست يافعة قليلا بالنسبة إليك؟  تذكرت تلك الفتاة الإسبانية المدهشة وهي تغازل خافيير بشكل فاضح خلال حفل عشاء حضراه مؤخرا . تمهل خافيير في مدخل باب الحمام موجها إليها ابتسامة لطيفة ، وقال :" حسنا! عزيزتي ، أوشك على التصديق أنك تغارين ".  أخبرته غرايس بمزاج سيء :" حسنا! أنا لا اغار ، فلا تغتر بنفسك . أنتظر بشوق ان احظى بقليل من السكينة والهدوء بعد رحيلك ، لذا لا تسرع بالعودة ".   بعد مرور اسبوعين ، أقرت غرايس ببؤس وحزن أن خافيير لا يبدو على عجلة من أمره ليعود إلى القصر. أما عذره للتأخير فهو اضطراره الى تحمل أعباء عمل غير متوقعة ، لأن بعض المشاكل طرأت في المكتب الرئيسي للمصرف . بدا متعبا خلال المناسبات القليلة التي كالمها فيها هاتفيا ، اما غرايس فقد اتصلت به الى شقته في مدريد مرتين ، مبتدعة أعذارا سخيفة أمضت وقتا طويلا في ابتكارها . لكن من أجاب على اتصالها امرأة ذات نبرة مشرقة جعلت الغيرة تتآكلها كما لو أنها نار حارقة. لم تكن تلك لوسيتا ، فالصوت بدا صوت امرأة متميزة راقية . من تلك التي ترفه عن خافيير في شقته الخاصة في ساعة تكاد تقارب العاشرة مساء؟ أتراها إحدى عشيقاته السابقات؟ كان يجدر بها ان تتحلى بالجرأة والشجاعة حتى تسأله ، عوضا عن إقفال السماعة في وجهه وقضاء ليلة أخرى من الأرق ، وهي تتصوره مع امرأة خارقة الجمال .  قالت غرايس للوكا إنها لا تفهم سبب اضطرابها وغضبها ألى هذا الحد ، أما كلب خافيير فهو مثلها تماما يتوق لسيده، وراح يلاحق غرايس في ارجاء القصر كظلها . قالت له غرايس بنزق :" أنا لا آبه الى ما يفعله ، أو الى من يكون معه ".  انتابها شعور بأن لوكا يدرك أنها تكذب . بدا القصر هادئا جدا وكئيبا أثناء غياب الدوق ، فبعد رحيله ، أدركت غرايس مقدار الوقت الذي كانا يمضيانه سويا. همست قائلة :" أهو أمر سيء جدا لو أقريت بأنني أفتقده؟ إذا كان هذا ما أشعر به الآن ، فما بالك عندما ينتهي زواجنا ".  لعق لوكا يديها متعاطفا ، فربتت غرايس عليه وقالت له بكل جدية :" أنا لست مغرمة به . أنا بكل بساطة لا يمكنني حمل نفسي على التوقف عن التفكير به . هذا كل شيء ".                        ******************   بعد مرور ثلاثة ايام سمعت غرايس أزيز محرك طوافة خافيير وهي تنزل فوق الجبال . غطت عينيها بيدها وهي واقفة في الحديقة تراقب هبوطها ، ثم اندفعت الى الطابق العلوي مسرعة حتى تبدل سروالها القصير والقميص القطنية ، فترتدي احد الفساتين التي تملأ خزانة ملابسها. راحت أناملها ترتعش وهي رباط شعرها ليسقط منسدلا على كتفيها قالت لنفسها بصرامة إنها لا تود ان تبدو كما لو أنها بذلت جهدا لتبدو جميلة ، لكنها لم تقو على مقاومة وضع لمسة من أحمر الشفاه اللماع على شفتيها ، كما رشت العطر على رسغيها بكرم .  خافيير في المنزل الآن! فجأة بدا لها كأن حجارة القصر القديمة العهد تبتسم . ما إن هرعت غرايس لتعبر الباب الأمامي حتى رأته يمشي بخطوات واسعة عبر الباحة الخارجية ، لكنها لم تكن مستعدة لوقع تأثير رؤيته عليها . بدا لها كأنما قلبها توقف عن الخفقان ، ثم بدأ ينبض مجددا بضعف سرعته الاعتيادية . فكرت بضعف أنها أفتقدته كثيرا ، لذا تمهلت قليلا على الشرفة الخارجية المغطاة بالظلال بينما حاولت استعادة سيطرتها على مشاعرها . نظر خافيير الى الاعلى فرآها . التوى فمه بابتسامة مدمرة جعلت نواياها تذهب في مهب الريح.  -خافيير!  أسرعت غرايس نزولا على الدرج وهي لا تكاد تلاحظ شاحنة إيصال الطلبيات التي تسير الى الخلف على الدرب المؤدي الى القصر . لكنها استطاعت ان تلتقط بطرف عينها أثرا أسود اللون ينطلق بسرعة فائقة من المدخل الجانبي، فصرخت :" لوكا ..... لا!"  سمع صوت الارتطام المسبب للغثيان ثم عواء الكلب الذي يئن متألما . أبعدت غرايس نظراتها عن منظر الكلب المستلقي من دون حراك تحت اطار الشاحنة ، والتفتت نحو خافيير . حين رأت التعابير البادية على وجهه أحست برغبة في النحيب . تساءلت كيف تراها  استطاعت ان تظن بأن خافيير يفتقر الى القلب والمشاعر؟ أخبرها أنه لا يؤمن بالحب ، لكنها الآن تمتلك الدليل على انه يكذب . لبضع ثوان لمحت في عينيه الألم المحض والخوف والتعاطف الوفي الذي يشعر به تجاه صديقه الوفي ، لكنه عاد وسيطر على أحاسيسه فأسرع متجها نحو لوكا . إنه رجل قادر على منح الكثير من العاطفة ، نظرا الى انه تلقى قليلا جدا من الحب في حياته . طفولته جعلته شخصا حذرا عديم الثقة بالناس ، ولكي يتجنب خطر ان يجرح مجددا ، قام خافيير بتوجيه عاطفته بإسراف نحو كلبه . تكلم خافيير وهو راكع الى جانب الكلب بصوت ملؤه الانزعاج قائلا لغرايس التي مشت متعثرة نحوه :" اطلبي من توريس ان يتصل بالطبيب البيطري بسرعة ، فهو يفقد الكثير من الدم ".  خلال الساعات القليلة التالية راحت تصلي كي ينجو هذا الحيوان الأليف . انها مستعدة لأن تفعل أي شيء مقابل ان يحيا لوكا وترى الابتسامة على وجه خافيير من جديد . فتحت الفكرة شقا صغيرا في ذهن غرايس ، وفجأة أحست ان كل شيء يبدو منطقيا جدا . أنها تحب خافيير! هذا هو السبب الذي جعلها تشعر بكل يوم من أيام غيابه طويلا رماديا لا ينتهي، وذلك بغض النظر عن سطوع شمس أواخر فصل الصيف . بشكل ما ، ومن دون ان تدرك ذلك ، اصبح خافيير شمسها وقمرها وسبب حياتها.  أقرت غرايس مرتعشة فيما خطت عبر حديقة الورود، بأن شعورها ليس مجرد نزوة عابرة أخبرها خافيير خلال شهر عسلهما أنه الرجل الوحيد المناسب لها ، وهي لم تتمكن من نكران ذلك. أنه يثير فيها مشاعر وأفكارا بدائية جدا ما زالت حتى الآن تسبب لها الصدمة ، لكنه الرجل الوحيد الذي جعلها تشعر بذاتها كامرأة كاملة .  بعد ان رأته اليوم مع لوكا ، أدركت غرايس اخيرا ان مشاعرها نحوه تتعدى المشاعر الحسية . رغبت باحتضانه لكي تحميه من الألم والأذى . بفضل خافيير لن يمضي والدها السنوات القليلة المقبلة في السجن . بالرغم من ان كليهما حظيا بمكاسب معينة معينة من عقد زواجهما ، عاملها خافيير بكل احترام وتقدير . ليست مصادفة أن فريق عمله وموظفيه يقدرونه ويحترمونه ، فغرايس اكتشفت أنه تحت واجهة الغرور والتعالي ، لطيف وساحر ، ويتمتع بشغف وسحر يجعلانها تتوق إليه . لكن في يوم زفافهما حذرها خافيير بألا تتوقع أشياء غير موجودة قائلا إن من المستحيل أن يغرم بها ابدا . يومها كانت غرايس تعتقد أنه صلب وقاس لا يمكن اختراقه ، تماما كجدران هذا القصر . حسنا! لمجرد أنها لمحت صدعا في درعه الواقي ليس سببا كافيا لأن تأمل بأنه قد يتوصل ابدا الى اعتبار هذا الزواج أي شيء أكثر من مجرد عقد عمل مؤقت. الآن بالذات ، الشيء الوحيد الذي يشغل تفكير خافيير هو لوكا ، وهو ليس في مزاج يسمح له بالتعامل مع احاسيسها . آخر شيء تود فعله هو أن تخرج نفسها بالكشف عن مشاعرها له. استنشقت غرايس نفسا عميقا ومشت عائدة الى داخل القصر . عندما انضمت إليه داخل المطبخ الضخم ، أخبرها خافيير ان لوكا يعاني من كسور في رجله والكثير من الرضوض . تطلب نقل لوكا الى داخل القصر تعاون كل من خافيير وتوريس اللذين حملاه الى هناك . أما الطبيب البيطري فأبدى ترددا بشأن تحريكه مجددا، وعوضا عن ذلك عالج جراح لوكا واعطاه مسكنا قويا. والآن لم يعد أمامهم سوى الانتظار والتأمل بأن ينجو الكلب .  تكلم خافيير بعبوس وتجهم قائلا :" الساعات الأربع والعشرين المقبلة هامة وحاسمة ، لكن الطبيب البيطري واثق من انه سيتعافى ".  غمغمت غرايس متحمسة :" آه! آمل ذلك".  ركعت الى جانب خافيير ومسدت فرو الحيوان الفاقد الوعي ، ثم تابعت بصوت ثخين :" أعلم كم تهتم لأمره".  أحست بالدموع تخز عينيها حين تذكرت الاحباط والألم اللذين ظهرا في عيني خافيير ساعة وقوع الحادث. ظهر التوتر على خافيير ، وما لبث ان امسك بذقنها ورفع وجهها لكي يتمكن من النظر الى عينيها، ثم قال :" أحيانا أشعر أنك تعرفين الكثير عني ، غرايس . أشعر بهاتين العينين الزرقاوين العميقتين تنظران الى داخل روحي فتكشفان عن اسراري".  همست غرايس وقد خدرتها قوة نظرته :" أرغب بألا تكون هنالك اسرار بيننا. انت زوجي .... بالرغم من أنه يبدو وكأنك نسيت هذه الحقيقة خلال الاسابيع القليلة المنصرمة ".  تذكرت غرايس صوت تلك المرأة التي ردت على الهاتف في شقة خافيير ، فابتلعت ريقها. الآن لا يبدو الوقت مناسبا للكشف عن غيرتها غير المنطقية . التوى فم خافيير في شبه ابتسامة جميلة لم تبلغ عينيه، فقال :" أتظنين ان بمقدوري ان انساك؟ ليتني أقدر على ذلك عزيزتي ، لكن الواقع انني امضيت كل دقيقة وانا افكر بك ، واحلم كل ليلة بأنك مستلقية الى جانبي ، وبأن وجهك قريب مني ، وانني اذا ادرت رأسي يمكنني أن اعانقك .... هكذا".  تحرك خافيير برفق ولطافة ، كما لو انه يرغب بأن يعوض في هذه اللحظة عن كل الأيام التي أمضياها بعيدين عن بعضهما . فكرت غرايس ببساطة أن هذا هو المكان الذي ترغب بالتواجد فيه ، فلفت ذراعيها حول عنقه وتجاوبت مع عناقه بشغف رقيق .  عندما رفع خافيير رأسه لاحظت خطوط الارهاق البادية حول عينيه ، فغمغمت قائلة :" يجدر بك أن النوم ".  -ليس الليلة .... أرغب بالبقاء مع لوكا ، فلربما تحرك .  -حسنا! على الاقل استرح لبضع دقائق . يمكنك ان تستحم وتتناول بعض الطعام  انأ سأجلس معه ، وأعدك أنني سأناديك إن طرأ أي تغير في حالته .  كانا ما يزالان راكعين على الارض الى جانب سلة لوكا أخيرا وقف خافيير وجذبها لتقف على قدميها ، قال بصوت أبح :" غرايس ، أنا لا استحق لطفك . أنت هي من يجدر بعا ان تنام قليلا ، فسوف تستقلين الطائرة إلى انكلترا غدا ".  قفزت الى ذهنها أفكار متسارعة ، فتلعثمت قائلة :" أتقصد أنك .... سترسلني بعيدا من هنا؟ لكن لماذا؟"  أتراه سئم منها ومن مبادئها الأخلاقية ، ويريد أن يبعدها طريقه ليتمكن من إحضار عشيقته إلى القصر؟  انخفض حاجبا خافيير في عبوس يدل على الارتباك والحيرة بسبب انزعاج غرايس الواضح ، وقال :" فقط لمدة أسبوع . أدرك كم تفتقدين إلى والدك ، لذلك رتبت الأمر لكي نزوره سويا ، لكنني لا أستطيع ترك لوكا بهذا الوضع ".  غمر الارتياح غرايس فوجهت له ابتسامة غير واثقة ، وقالت :" بالطبع لا ، لكننا نستطيع تأجيل الرحلة الى ان يصبح بحال أفضل ".  -أنا واثق من انك لم تنسي ان عيد مولد أنغوس سوف يحل بعد عدة أيام . تحدثت الى عمتك هاتفيا فقالت لي إنه ينتظر رؤيتك بفارغ الصبر.  مسد خافيير شعر غرايس بعيدا عن وجهها ، ثم قال :" لا يمكنك ان تخيبي ظنه عزيزتي". أقرت غرايس بأنها فعلا لا تستطيع تخييب ظن والدها ، لكن ذهنها انشغل بخافيير الى درجة نسيت معها عيد مولده . سألته بهدوء :" متى سأغادر؟"  -غدا باكرا . يجدر بك ان تذهبي الى السرير ، وسأراك في الصباح .  اومأت غرايس برأسها وهي لا تثق بنفسها لكي تقول شيئا . لكن ما إن وصلت الى الباب حتى استوقفها صوت خافيير وهو يقول :" غرايس! سوف تعودين أليس كذلك؟"  بدت التعابير في عيني خافيير غامضة ، لكنها لاحظت اللون الباهت الذي علا عظمتي خديه الحادتين . وعدته بنعومة :" بالطبع سأعود . لقد عقدنا اتفاقا أتذكر؟"  لكنها تعذبت لما تبقى من الليل بسؤال نفسها كيف يمكنها أن تحيا من دون خافيير بعد ان تنتهي مدة عقد زواجهما . كذلك فهي لم تقو على إخفاء بؤسها عندما قاد توريس السيارة بعيدا عن القصر صباح اليوم التالي .                        ************** فكرت غرايس ان الخريف قرر كما يبدو أن يصل باكرا هذه السنة الى شاطئ إنكلترا الجنوبي ، وذلك بعد مرور اليوم الخامس من الطقس المشحون بالامطار الجارفة الغزيرة . حدقت خارج نافذة منزل الضيوف الخاص بالعمة بام ، ونظرت باتجاه العشب الأخضر المغمور بالماء ، فيما فكرت بتوق وكآبة بأشجار النخيل الاستوائية وبالحشائش النامية في حدائق قصر الأسد .  أقرت انها بالكاد تطيق صبرا حتى تعود الى هناك ، إلا أن شوقها هذا ليس سببه شمس غرناطة الدافئة ، فهي قد تعيش بسعادة في القطب الشمالي طالما عي مع خافيير . -مات الملك!  أعلن أنغوس بيريسفورد ذلك بسرور رافعا رأسه لينظر نحو غرايس من فوق حافتي نظارتيه ، وتابع :" شيء ما ينبؤني بأن ذهنك لم يكن منصبا كليا على اللعبة حبيبتي ".  أجابت غرايس مبتسمة :" أنا لم أتمكن أبدا من التغلب عليك في لعبة الشطرنج ، أبي . لطالما كانت والدتي أفضل مني ".  ساد السكون على أنغوس للحظة ثم رد ابتسامتها ببطء ، وقال :" نعم ، كانت تقدر على التغلب علي بسهولة ، رحمها الله ".  لطالما تجنبت غرايس أي ذكر لوالدتها خشية أن ترسل والدها في نوبة اكتئاب عميق يستمر لأيام عديدة . أما الآن فقد أصبح أنغوس قادرا على تحمل خسارة المرأة التي أغرم بها منذ أن وقعت عيناه عليها ، وذلك بفضل مساعدة اخصائي في هذا المجال . انحنت إلى الامام لتقبل أنغوس على خده مدركة أنه ما زال أمامه درب يقطعه . فهو سوف يتابع تناول الأدوية الخاصة بالاكتئاب لعدة اشهر مقبلة بعد . ما تزال هنالك فجوات كبرى في ذاكرته، وهي متأكدة من أنه يتذكر تفاصيل قليلة عن آخر سنة له كمدير للمصرف وعن محاولاته اليائسة للتعامل مع المشاكل المالية المتزايدة .  بفضل خافيير أصبح أنغوس حرا من الملاحقة القانونية ، وهو في مأمن حيث ترعاه العمة بام . غرايس لن تسمح بأن يعرف مطلقا ما هو الثمن الذي دفعته مقابل حريته ، لقد وهبت سنة من عمرها لرجل تمقته .  أقرت بألم انها بالطبع لا تمقت خافيير . استحال عليها أن تفكر بأنها كرهته يوما ، في حين أن حبها له يملأ قلبها كالطوفان . قوطعت أفكارها لدى سماعها جرس الباب . تبع ذلك النباح الحماسي لجراء العمة بام الثلاثة . سمعت توسل العمة الخافت :" هيا بنا مستي الى المطبخ ، وانت موبيت توقف عن مضغ خفي . غرايس ، هل يمكنك ان تفتحي الباب؟"  أسرعت غرايس في عبور البهو محاولة ألا تبتسم ، وفتحت الباب الأمامي . كاد قلبها يثب من صدرها عندما حدقت في عينين ذهبيتين مألوفتين ، قالت :" خافيير! ماذا ..... ما الذي تفعله هنا؟"  تلعثمت وقد غمرها الخوف المفاجئ ، فقالت :" لوكا ...؟"  طمأنها خافيير بسرعة :" إنه يتعافى بسرعة أكبر مما توقع الطبيب البيطري . جئت لآخذك إلى المنزل ، بالطبع".  أخبرها ذلك بلمحة من التعجرف والتعالي اللذين تعرفهما جيدا ، لكن الدفء البادي في عينيه ، أخبرها أنه لا يقوى على التحكم بأحاسيسه . قال :" فكرت ان زوجتي تغيبت لفترة طويلة بما يكفي ".  تكلمت غرايس مبهورة فقالت :" لكنك تعلم أنني سأعود غدا .أنت رتبت لي موعد الرحلة ".  كان خافيير يرتدي سروالا من الجينز الباهت اللون مع سترة جلدية سوداء ابرزت عرض كتفيه الواسعتين . أما شعره فكان بحاجة الى القص بحيث التف فوق سترته ، فيما غطت فكه ظلال غامقة اللون فبدا لها كما لو ان رحلته إلى انكلترا جاءت وليدة اندفاع جنوني .  تشدق خافيير قائلا :" الصبر ليس مطلقا إحدى نقاط القوة لدي . طائرتي الخاصة تنتظر في المطار المحلي اذهبي وأجلبي أغراضك ".  طالبته غرايس :" أتقصد أنك تريد الذهاب الآن بالذات؟ لكنني لم اوضب أمتعتي أو أي شيء . ما الأمر حقا ، خافيير؟ هل ظننت انني قد أخلف باتفاقنا؟ لقد أعطيتك كلمتي بأنني سوف أعود إليك ، لكن من الواضح أنك لا تثق بي ".  زمجر خافيير وتلاشت أبتسامته ما ان لاحظ تلألؤ الدموع في عينيها ، فقال :" ليست مسألة ثقة ".  تذمرت غرايس قائلة :" لم الضرورة المفاجئة اذا؟ فأنت تبدو كأنك سقطت خارج سريرك هذا الصباح فوقعت مباشرة في الطائرة إلى هنا ".  هز خافيير كتفيه ، وفجأة بدا مصمما على تجنب نظراتها فقال :" الضرورة هي أننا امضينا ما يقارب الشهر منفصلين عن بعضنا . أنا أمضيت في مدريد فترة تزيد عما خططت له ، ثم جئت أنت هنا للأحتفال بعيد مولد والدك ".  بدا خافيير محرجا فلاقت عيناه عينيها للحظة ، ثم بسرعة غير اتجاههما بعيدا عنها ، وقال :" انا ... أشتقت إليك ".  -آه!  أحست غرايس كما لو ان كورسا من الملائكة راح يرتل داخل رأسها ، فوجهت لخافيير ابتسامة خجولة وهمست :" أنا .... اشتقت إليك ايضا ".  حدقت به فأجبرته على النظر إليها . اخذ قلبها ينبض بقوة عندما التوى فمه في ابتسامة بطيئة تعدها بالجنة . -غرايس...!  نظر خافيير إلى اعماق عينيها ، فارتعشت كما لو ان موجة من الكهرباء مرت بينهما .  غمغمت غرايس منقطعة الانفاس :" نعم؟"  -هل تظنين أنه يمكنني الدخول من تحت المطر قبل ان أغرق؟ -آه! نعم ، بالطبع . أنا آسفة جدا!  تراجعت غرايس فأدخلته الى الصالة ، بينما التهبت وجنتاها باللون الاحمر . كان خافيير مبللا جدا . رفع إحدى يديه ليمسد شعره الذي يقطر ماء بعيدا عن جبينه . أحدثت غرايس جلبة وهي تجذب سترته قائلة :" أنت مبتل بالماء حتى جلدك ... دعني أساعدم على خلع ملابسك ".  تراقصت عينا خافيير المستمتعتان برؤية وجهها المحمر خجلا ، فقال يغيظها :" أنا تحت تصرفك عزيزتي ، لكنني لست واثقا من أنه يجدر بك ان تجرديني من ملابسي في البهو . قد لا توافق عمتك على ذلك ".  قالت له غرايي معاكسة :" أنت فعلا من صنع الشيطان ، خافيير هيريرا ".  ثم ضاع تدفق مزاجها الغاضب تحت وطأة عناقه المشتاق . تعلقت غرايس به ، من دون ان تبالي بملابسه المبللة ، فهي مشتعلة بالنار بسببه .  دمدم خافيير بصوت خشن حين رفع رأسه :" عودي إلى المنزل غرايس ، فمكانك معي ".  أتراه يقصد شروط عقد زواجهما؟ فكرت غرايس برفق ان ذلك لم يعد يبدو لها مهما . جل ما يهمها هو ان تكون مع الرجل الذي تحبه ، مهما كانت المدة التي يريدها هو . وجهت له ابتسامة اخترقت روحه ، وأسرعت تصعد لتوضب امتعتها .

لا تبعدني عنك

   -يجدر بي البقاء في مدريد لبضعة أيام ، وفكرت بأنك ربما تودين تمضية بعض الوقت في المدينة قبل ان نعود إلى القصر .  أخبر خافيير غرايس بذلك عندما أوقف السيارة في مرآب السيارات السفلي التابع للمبنى حيث تقع شقته، ثم قاد غرايس إلى داخل المصعد .  فكرت غرايس بصمت أنها لا تمانع طالما هي مع خافيير ، آملة أن تخفي ابتسامتها الباردة ذاك الحماس الهائج الذي أخذ يتصاعد في داخلها منذ ان صعدت على متن طائرته الخاصة .افتقدته كثيرا خلال الاسابيع القليلة المنصرمة التي امضياها منفصلين ، لكن فقط الآن ادركت تماما كم تاقت له ، فيما تمعنت بملامح وجهه الخشن . كيف تراها ستحيا من دونه؟ تساءلت غرايس بخوف فيما أقلهما المصعد . بعد تسعة اشهر من الآن سوف تنتهي مدة عقدهما فيذهب كل منهما في طريقه ، لكنها لن تتحرر منه ابدا . لقد عرفته روحها كنصفها الآخر ، وحين يفترقان سوف تمضي بقية حياتها وهي تشعر بالفراغ وعدم الاكتمال . غمغمت وهي تنظر نحو خافيير عبر البهو الواسع الخالي من الحياة نوعا ما :" أصبح الوقت متأخرا ولا بد أنك متعب ، فقد أمضيت معظم يومك في الفضاء . أين وضعت حقيبة اغراضي؟ أفترض انها في غرفة النوم الرئيسية ".                           أضافت جملتها الأخيرة وقد أحست بارتعادة تعبر جسدها لدى تفكيرها بمشاركته السرير مجددا . هي لم تشاركه ابدا السرير في الشقة . لا بد أن خافيير سيتبع الليلة الوعد الظاهر في عينيه ، فيأخذها بين ذراعيه .  تمشى خافيير عبر البهو قليلا ، ثم قال :" وضعت حقيبتك في غرفة النوم الموجودة في نهاية الرواق ، حيث نمت من قبل ".  تمهل برهة ، ثم تابع :" قررت من الآن فصاعدا ان تنامي في غرفتك الخاصة ، هنا وفي القصر ايضا ".  أحست غرايس كما لو ان قلبها سقط دفعة واحدة حتى أصابع قدميها لدى سماعها هذا التصريح غير المتوقع ، فغمغمت :" فهمت!"  هذا يوضح لها تماما بأنه ما عاد يريدها ، ولا بد أنها أخطأت حين رأت الشوق في عينيه . حدق خافيير بعزم ثابت خارج النافذة ، ثم قال لها بخشونة :" كنت مخطئا حين طالبتك بمشاركتي سريري ... وحين توقعت منك أن تضحي بقيم هي ذات أهمية بالنسبة إليك . لا بد أن تفهمي أن سبب ذلك يعود الى حقيقة انني لم أتعرف أبدا إلى أمرأة تتمتع بالمبادئ من قبل . انت لست مثل النساء الاخريات . أليس كذلك ، عزيزتي؟"  التوى فمه في ابتسامة لم تصل الى عينيه .  -لا يمكنني أن أوافقك على إيمانك الأعمى بالحب الأزلي وبالنهايات السعيدة الشبيهة بقصص الجنيات الخرافية ، لكنني أدركت انه لا يحق تدمير معتقداتك، أو افساد براءتك اللطيفة بسخريتي . أعدك أنك من الآن فصاعدا سوف تمضين كل ليلة في غرفتك الخاصة . رمشت غرايس عينيها وقد ضاعت منها الكلمات ، ثم نعقت أخيرا قائلة :" شكرا لك ".  لم تسمح لها عزة عينيها أن تقر أن فقدان تلك الحميمية التي تشاركا بها من قبل سوف يدمرها . تساءل خافيير :" أنت لا تبدين سعيدة جدا ، ما الخطب الآن؟"  ضاقت عيناه وهو يلاحظ الذبول المفاجئ في فمها ، فيما تذمرت غرايس قائلة :" أنا فقط أشعر بالفضول حيال تغييرك المفاجئ لرأيك . أفترض أن للأمر علاقة بعشيقتك التي أقامت هنا معك حين تركتني وحيدة في غرناطة؟"  ارتفع حاجبا خافيير جزئيا وقال :" ليس لدي عشيقة".  -آه! ما بالك؟ قد أكون بريئة لكنني لست مغفلة . ففي كل مناسبة اتصلت فيها كانت امرأة ترد على الهاتف ... ولم تكن تلك لوسيتا.  أضافت غرايس الجملة الاخيرة بحدة ، وهي غير قادرة إخفاء الغيرة البادية في صوتها . وافقها خافيير برصانة :" لا! لوسيتا تقيم مع نسيبتها في الجانب الآخر من المدينة . المرأة الوحيدة التي جاءت إلى هنا هي بيلار .... مدبرة المنزل".  أضاف خافيير كلماته الأخيرة مفسرا حين عبست غرايس .  -فهمت!  تذكرت حين دخلت إلى شقة ريتشارد كوينتين ، لتجده في السرير مع مدبرة منزله . يومها أحست بالدمار والاحباط التام لدى اكتشافها الخيانة الفظة لرجل اعتقدت أنها تحبه . أما الآن ، فرغبت بأن تتقيأ لمجرد تصورها لمنظر خافيير وهو يتقلب على اغطية الفراش مع مدبرة منزله الجميلة . قالت بصوت ثخين :" بيلار .... أهي جميلة بمقدار اسمها؟ وهل تلبي كل رغباتك ، خافيير؟"  بدا عليه الارتباك والحيرة بوضوح لعدائيتها ، فأجابها :" إنها حتما طباخة ماهرة ، لكنني اخشى ان التهاب مفاصلها بدأ يسوء الى حد يجعلها ترغب بالتقاعد قريبا ، والانتقال للسكن مع ابنتها وأحفادها . إنها تقيم معهم الآن لعدة ايام ".  ثم اضاف :" لكنها أعدت لك سريرك قبل مغادرتها ".  تمنت غرايس لو ان بمقدورها أن تزحف فتختبئ تحت صخرة ما . قالت :" أشكرك لإيضاح ذلك . أعتقد أنه يجدر بي ان اذهب الى الفراش قبل ان أحرج نفسي اكثر . عمت مساء ".  أنت بصمت دلالة على عدم رضاها عن لمحة التسلية التي التمعت في عيني خافيي . -عمت مساء ، عزيزتي . نامي جيدا . حياها خافيير بصوت مغيظ جعلها تتلوى من شدة خجلها ، فأومأت بسرعة وحثت الخطى في البهو متجهة الى غرفتها . استحمت غرايس وجففت شعرها بمجفف الشعر الكهربائي ، ثم انزلقت الى السرير حيث غفت بتململ لا يعرف الراحة . استيقظت قبل ساعة من طلوع الفجر . وما إن استرجعت ذكرى الاتهامات الجامحة التي قذفتها نحو خافيير ، تأوهت وجذبت الوسادة فوق رأسها . كيف استطاعت ان تكون بهذا الغباء ؟ لا بد ان خافيير حلل الأمر ، وأدرك انها تكن له المشاعر. أقرت بتشاؤم : وأي مشاعر هذه! منذ اللحظة التي وقعت عيناها عليه في منزل العمة بام ، بدأ جسدها الخائن يضج بأحاسيس من الشغف الحامي ، وحده خافيير يستطيع إثارتها فيه . إنها مشتاقة إليه الى حد جعل الشوق ينبض في عروقها بضربات بطيئة هادئة . اطلقت غرايس أنة أحباط ، ثم رمت الأغطية الى الوراء وسارت نحو الحمام ، آملة ان تخمد المياه الباردة حرارتها الحارقة . فكرت بشعور من الحتمية أنها وجدت في خافيير قدرها ، وان كان قدرا قصير الأمد .أقرت بذلك بألم وهي تفكر بالطلاق الذي سيحين موعده بعد تسعة اشهر . لكنها تحبه! إن الوعود التي قطعتها يوم زفافها لم تكن اكاذيب ، فهي قصدت كل كلمة قالتها ، بالرغم من أنها لم تدرك ذلك حينها . سوف تحب خافيير في المرض وفي الصحة ولبقية حياتها، كما انها تتوق لأن تكرمه بالحصول عليها كل ليلة من الأشهر المتبقية لزواجهما.   أسرعت غرايس بعبور الرواق المؤدي الى غرفة خافيير من دون ان تسمح لنفسها بأن تستجمع أفكارها وشكوكها . راح قلبها يدق محدثا صوتا قويا، وفاجأها ان المبنى لم يرتج لدويه . طمأنت نفسها ان خافيير لا يزال نائما ، وحين يستيقظ سيجدها مستلقية الى جانبه ، أما هي فستقول له انها تسير في نومها . اذا كان الحظ حليفها سوف يأخذها خافيير بين ذراعيه قبل ان يستيقظ تماما . بعدئذ من يعلم ما الذي قد يحدث؟  دفعت الباب ففتحته بحذر ، لكن قلبها تجمد في مكانه عندما رأت زوجين من العيون العسلية تركزان نظراتهما عليها عبر الغرفة .  -غرايس! هل من خطب؟  ظنت انها ستجده نائما ، الا ان خافيير كان مستندا الى الوسائد ، فيما تدلى الغطاء فوق وركيه ، تاركا صدره ومعدته المشدودة مكشوفتين .  بدا مستيقظا تماما وجذابا الى حد الخطيئة . جاذبيته جعلتها تشعر بالضعف فرطبت شفتيها بتوتر .  -ليس هنالك أي خطب ، أنا فقط ...  قطعت غرايس كلامها فاقدة الحيلة فيما اذابت عظامها تلك الحرارة في عيني خافيير . انفجرت بعدئذ لتقول بشجاعة :" خافيير! انا لا أمانع في ان نقيم علاقة حميمة ".  -غرايس! لا يجدر بك ان تتفوهي بأشياء مماثلة . أفلت اسمها من شفتيه بأنين خافت ، فارتعشت تحت قوة نظراته الحادة .  غمغمت غرايس :" لم لا؟ نحن متزوجان ".  مشت بضع خطوات لتدنو من السرير ، شجعها على ذلك وميض الشوق البادي على وجهه ، وقالت :" أريد أن أصبح زوجتك بكل ما في الكلمة من معنى ".  دمدم خافيير بصوت أجش :" يجدر بي أن اطردك من غرفتي ، فأنا لست الرجل المناسب لك عزيزتي . لكن رقتك وجمالك يغويان حتى القديس ، وأنا لم أعلن أبدا إيماني بالتقوى وتمسكي بالورع ".  أبعد غطاء السرير الى الخلف ، ثم تناول يدها وجذبها الى السرير . كانت غرايس ترتجف ، أم تراه هو الذي يرتجف؟ رفع يدها نحو فمه فمرر شفتيه برقة فوق مفاصل اناملها ، ثم قال :" لا تنظري إلي هكذا. أخر شيء أود فعله هو ان اؤذيك . هل تثقين بي؟"  أمسك خافيير ذقنها فأجبرت على النظر إليه . رأت الشغف الرقيق في عينيه ، فجعلها ذلك تومئ برأسها من دون كلام . وجهت له ابتسامة غير واثقة ، ثم سمعته يستنشق النفس بخشونة قبل ان يخفض رأسه ليعانقها عناقا حميما لا تشك مطلقا برغبته فيها.  همسةخافيير لها قبل ان يتتبع بأصابعه دربا على طول فكها ، ثم نزولا نحو النبض الذي يخفق بجنون في اسفل عنقها :" إنك صغيرة جدت ... كاملة جدا"  -خافيير ...!  همست الى جانب عنقه فابتسم ، لعله لا يعرف الكثير عن الاحاسيس والمشاعر ، لكنه عاشق ماهر ، كريم وموهوب . بالرغم من أنه لا يستطيع ان يكون صبورا جدا حين يتعلق الأمر بغرايس .                       ************** في فصل الشتاء تغطي الثلوج قمم جبال السييرا نيفادا ، لكن داخل قصر الأسد فإن النيران في الموقد الضخمة تشتعل متوهجة فتحرص على تدفئة كل غرفة منه . ما تزال هنالك ثلاثة أسابيع حتى حلول موعد عيد الميلاد ، لكن موسم الاحتفالات بدأ للتو . الليلة يقيم الدوق دو هيريرا حفل عشاء مترف لرجال الاعمال المحليين وأصحاب المقامات الرفيعة في غرناطة .  فكرت غرايس وهي تتحضر للحفل أن الاشهر القليلة الماضية كانت الأسعد في حياتها ، فمنذ أن جعلها خافيير زوجته بكل ما للكلمة من معنى لم يمضيا أي ليلة منفصلين . عاشا لحظاتهما الحميمة بسعادة وشغف جعلا غرايس تتمتع بابتسامة دائمة على وجهها . لكن معرفتها بأن الوقت بدأ ينفد عكر سعادتها . بعد مرور ستة اشهر من الآن سوف يضمن خافيير موقعه كرئيس لمصرف هيريرا ، ثم يرتب لمشروع طلاق سريع منها . بالرغم من تمتعها بحياة زوجية رائعة جدا ، لم توهم غرايس نفسها بأنه قد يرغب باستمرار علاقتهما . كل ليلة كان خافيير يضمها إليه بشغف حاد ، لكنه ينقلب لاحقا إلى جهته من السرير فيحرمها من القرب الذي تتوق إليه .  أما المرات الوحيدة التي كان يعانقها خلالها مظهرا عواطفه فهي أثناء النهار ، لذا افترضت أنه يقوم بذلك امام أعين موظفيه ، متعمدا عرض هذه المظاهر التي تدل على أنهما زوجان سعيدان .  راقبت غرايس انعكاس صورتها في المرآة ، فعلمت أن وهج الحماس البادي على خديها سببه خافيير ، الذي سوف يراقصها حفلة الليلة ويمسكها بقربه بأسلوب تتوق له .  لفت انتباهها حركة خفيفة عند مدخل الباب فحبست أنفاسها ، فيما سار خافيير باتجاهها الى ان انضمت صورته الى صورتها المنعكسة في مرآة طاولة الزينة .  -أنت تبدين ..... مميزة .  قال لها ذلك بعد عدة لحظات طويلة ، وبعد أن تنقلت عيناه فوق جسدها في تقدير صريح وصادق . غمغمت قائلة :" شكرا لك ".  تلاقت عينا خافيير مع عينيها في المرآة ، فأحست غرايس بارتعاشة سرور أنثوي لدى رؤيتها التوهج في نظراته . ارتدت غرايس فستانا من اللون الاحمر النبيذي الغامق ذا تنورة ممتلئة وكمين ضيقين ، تم تصميمه بمهارة حتى يبرز رشاقة جسمها إلى أقصى حد . استفسرت بصوت أبح ، فيما راقبت فمه يلتوي الى ابتسامة مدمرة :" كم تتوقع أن تستمر الحفلة؟" زمجر خافيير :" لفترة طويلة جدا ".  انتابها شعور بأنه يخوض معركة داخلية مع ذاته . فجأة انفجر توتره ، ففوجئت غرايس حين انزل رأسه ليضمها إليه في عناق محموم .  بعد قليل غمغم قائلا :" أتساءل ما الذي يدور داخل رأسك ، خلف تلك الابتسامة الهادئة؟ ما رأيك يا حمامتي الرمادية الصغيرة لو عانقتك الآن بالاسلوب الذي ارغب به ؟"  -عليك الانتظار ، فأنا لا اريدك ان تتلف فستاني .  وجهت له غرايس ابتسامة ماكرة وراقبت التماعا يتوهج في عينيه .  -أعتقد أنك محقة . بمناسبة الكلام عن فستانك ... لدي شيء لك .  أخرج خافيير علبة جلدية رفيعة من جيب سترته وسلمها إياها .  سألته غرايس :" ما هذه ؟"  -افتحيها وسترين .  ابتسم فيما تلمست المشبك بأناملها ، ثم سمعها وهي تشهق محدقا نزولا نحو العقد المصنوع من الماس والياقوت الاحمر ، والمعلق على سلسلة ذهبية طويلة.  حدقت غرايس بعينين متسعتين وقالت :" إنه رائع! لكنك لا تستطيع أن تعطيني هذا . أنت زوجتي ، وأستطيع أن امنحك أي شيء أرغب به .  رفع خافيير الحلية المتدلية من علبتها ، فوضعها حول عنق غرايس بحيث استقرت الياقوتة فوق صدرها . ثم قال بملاحظة تدل على رضاه :" إنها تتلائم تماما مع فستانك ".  -لكن ، خافيير ....  توقفت غرايس عن الكلام ، وحدقت بالجوهرة الثمينة الباردة الثقيلة المستلقية على بشرتها ، ثم تابعت تقول :" لا يمكنني الاحتفاظ بها . سوف أستدينها منك ، وأعيدها لك عندما أرحل ".  استفسر خافيير بتباطؤ :" عندما ترحلين .... الى اين؟"  ألقى نظرة سريعة إلى ساعة يده وتمشى نحو الباب، مشيرا الى انه آن اوان نزولهما الى الطابق السفلي لملاقاة ضيوفهما .  -الى منزلي ... بعد .... بعد طلاقنا .  فأفأت غرايس مجيبة ، بينما ابتلعت الدموع التي أحست فجأة أنها تسد حلقها لمجرد تفكيرها بأن تتركه . تصلب خافيير ، فيما بدا وجهه كقناع مبهم غامض ، ثم قال بحدة :" سوف نقلق حيال الامر حينها . اشتريت هذا العقد لأنني اعتقدت انه سيعجبك ، لكنك ستضعينه حتى لو لم يعجبك . انت الدوقة دو هيريرا ، واتوقع منك ان تبدي مناسبة للدور وان تلعبيه جيدا امام ضيوفي ".  أقرت غرايس ببؤس ان تلك ليست بداية ميمونة تبشر بالنجاح لهذه الامسية .  بعد مرور عدة ساعات ، وبعد ان انتهى اخيرا العشاء بدأ تقديم القهوة في صالة الاستقبال . بدا خافيير أمام ضيوفه زوجا مخلصا شغوفا بزوجته .  هي وحدها التي ادركت ان تعابير وجهه الرقيقة تخفي البرودة البادية في عينيه حين ينظر إليها . دوره كمضيف للأمسية منحه العذر الكافي الذي يسمح له بالتحدث مع كل شخص آخر باستثنائها ، كما انه أمضى معظم فترة تناول الطعام وهو يتبادل الغزل مع الشقراء المرحة الجالسة إلى أحد جانبيه ، ومع لوسيتا فاسكيز الجالسة الى الجهة الاخرى .  قالت غرايس لنفسها بقساوة إنها لا تهتم حقا . من جهة أخرى فإن الغثيان الذي اصابها خلال الايام القليلة الماضية عاد إليها خلال هذه الامسية ، فتجعد جبينها في عبوس خفيف بسبب تذكرها لقلقها السري من حصول أمر غير مؤات . ان موعد دورتها الشهرية تأخر ... فقط بضعة أيام ، لكنه تأخر بما فيه كفاية ليجعلها تشعر بالهلع .  حاولت أن تطمئن نفسها قائلة إنها لا يمكن ان تكون حاملا ، فذلك شبه مستحيل ، لكنها شعرت ان رائحة القهوة القوية تقتحم احاسيسها . أحست غرايس بارتعادة تعبر جسدها . إنها خليط من الخوف والسرور الميال الى الخشية ، اذ تصورت نفسها لبضع لحظات وهي تحمل طفل خافيير بين ذراعيها . تدخل الواقع متطفلا على افكارها بسرعة . ما الذي سيظنه خافيير؟ لعله سيشعر بالسرور لذلك . أطلق قلبها رفرفة أمل خافتة صغيرة!  -هل تشعرين بالمرض ، غرايس؟ تبدين باهتة اللون أكثر من المعتاد .  قالت لوسيتا فاسكيز ذلك فيما انزلقت لتجلس في الفسحة المتوفرة على الكنبة الصغيرة الى جانب غرايس . أجابت غرايس وهي تدفع فنجان القهوة الخاص بها الى الجانب البعيد من الطاولة :" أنا بخير. أشعر ببعض الغثيان هذا كل شيء . اخشى انني تناولت الكثير من الطعام الدسم ".  أضافت ذلك عندما درست لوسيتا ملامحها بنظرة مشككة .  بدت الفتاة الاسبانية الشابة فاتنة بشعرها الاسود الاجعد المتراقص فوق كتفيها ، وبفستانها الابيض الملتصق بجسدها . كما بدت انيقة وجذابة بفضل القرطين الذهبيين المعلقين في اذنيها ، والاساور العديدة في رسغيها . حدقت الفتاة بغرايس لبضع لحظات والتمعت عيناها السوداوان قبل ان تطلق ابتسامة مشدودة وتقول ساخرة :" الطعام دسم؟ لا اظن ذلك . شقيقتي انجبت ثلاثة اطفال ، وهي لا تقوى على تحمل رائحة القهوة خلال فترة حملها. لعل هنالك سببا آخر يفسر شعورك بالتوعك ".  استنشقت غرايس نفسا حادا ، لكنها وجدت نفسها غير قادرة على ملاقاة نظرات تلك المرأة الشابة ، فغمغمت :" يحتمل ان اكون مخطئة . لم اتأكد من ذلك بعد ".  لكن الغريزة الانثوية -القديمة العهد قدم الزمان نفسه- انبأتها انها حامل فعلا .  همست لوسيتا وقد بدا وجهها الجميل فجأة حادا كوجه ابن عرس :" إذا ، نجح مخطط خافيير . فقد حصل لنفسه على زوجة وعلى وريث أيضا ضمن السنة المحددة . هذا إنجاز حقيقي ". أحست غرايس بريبة لا يمكن تفسيرها ، وبانقباض في معدتها فسألتها :" ما الذي تعنينه؟ أنت لا تعرفين شيئا عن زواجي ".  صرحت لوسيتا بنبرة واثقة :" بل أعرف كل شيء . انا اعلم ان خافيير تزوجك فقط لكي يضمن موقعه على رأس مصرف هيريرا . كما أعلم أنه قرر استخدام هذه السنة التي أرهق فيها بالحصول على زوجة ، حتى يحقق شروط وصية جده ، فيصبح والدا لوريث آل هيريرا التالي ".  أحست غرايس لبضع لحظات مروعة ان الغرفة تدور بها . قبضت على حافة الطاولة بيدها . لا يمكن ان تغيب عن الوعي .... ليس الآن أمام نظرات لوسيتا الساخرة . رطبت شفتيها الجافتين ، وحدقت بالفتاة ملاحظة توهج الانتصار يتألق في عينيها السوداوين، فهمست :" من أخبرك؟"  أدركت انه من غير المجدي ان تستمر بالادعاء أنها عروس سعيدة في حين ان لوسيتا واثقة جدا من نفسها ومما تقوله .  طالبتها غرايس سائلة :" أهو خافيير؟"  أحست بالغثيان القوي في معدتها حين ابتسمت الفتاة بكل بساطة . تشدقت لوسيتا قائلة :" لا عليك غرايس . خافيير لن يطلب الطلاق إلا بعد ان تلدي طفله . من الطبيعي ان يعيش الطفل معه في قصر الاسد ، لكنني واثقة من انه سيسمح لك بزيارته من وقت لآخر ".  تعثرت غرايس وهي تهب واقفة على قدميها ، ثم قالت :" لا شيء يمكنه ان يبعدني عن طفلي ابدا . أتسمعينني؟ لا شيء! لماذا تخبرينني بكل هذا في جميع الاحوال؟ انت واهمة لو ظننت ان خافيير قد يلتفت إليك ابدا . كان بمقدوره ان يتزوجك فينال السيطرة على مصرف والدك أيضا بضمه الى مصرف هيريرا ، لكنه يعتبرك يافعة جدا بالنسبة له ". رقت شفتا لوسيتا ، لكنها أجابت ببرود :" ذلك صحيح . قررنا ان ننتظر يضع سنوات الى ان انهي تعليمي . لكن بحسب شروط وصية كارلوس ، كان يجدر بخافيير ان يتزوج في الحال . ذلك هو السبب الوحيد لاختياره لك ".  لم تقو غرايس على نكران الحقيقة الجوهرية في تصريح هذه الفتاة الاسبانية ، لذا اسرعت عبر الغرفة متوجهة نحو الباب في حاجة ملحة لاستنشاق الهواء المنعش .  قالت غرايس لنفسها مرارا وتكرارا ان ذلك غير صحيح . قد يكون خافيير عديم الرحمة عندما يريد تحقيق مبتغاه ، لكن من المستحيل ان يتعمد ان يجعلها تحمل بطفله . لكنه تعمد كتمان معرفته بالشرط المدرج في وصية جده والمتعلق بإنجاب وريث . تحركت يداها من تلقاء نفسيهما نحو معدتها. إنه ليس رجلا فظا ، فقد اظهر لها اللطف والشغف ايضا خلال النصف الاول من فترة زواجهما . أهذا كله خداع ليجعلها تهدأ فتستكين الى احساس كاذب بالامان ، ليعود ويطالب بحضانة الطفل؟  فكرت غرايس ان لوسيتا كاذب، فالرجل الذي وقعت في غرامه ليس قادرا على القيام متحجر كهذا . حسنا! ليس هناك سوى طريقة واحدة لتهدئة مخاوفها ، وهي بأن تسأله مباشرة اذا كان هنالك شرط اضافي في وصية كارلوس، وهذا قبل ان تطلعه على ظنها بأنها حامل .  نظرت غرايس في ارجاء الغرفة باحثة بهلع عن بنيته الطويلة النحيلة ، لكنها لم تستطع ان تراه في اي مكان . ادارات عينيها نحو النافذة الواسعة في الوقت المناسب لتشاهد لوسيتا وهي تلف ذراعها حول خافيير فتعانقه بدلال . بدا خافيير أبعد ما يكون عن الانزعاج ، اذ رمى رأسه الى الوراء ضاحكا . آه! ذلك اكثر مما تستطيع ان تتحمله ، فكتمت تنهيدة ثم ركضت خارجة من الغرفة ، ولم تتوقف الا لأعلام توريس بأنها ليست على ما يرام ، وانها سوف تنسحب الى غرفتها .  علمت غرايس ان رئيس الخدم سوف يطلع خافيير فورا على الخبر ، لكن ساورها الشك بشكل ما بأنه سوف يهتم ، فهو منشغل مع صديقته الإسبانية الفاتنة . 

 

0 comments:

Post a Comment