شبح من الماضي "شانتيل شاو" الجزء6 و الاخير
شبح من الماضي "شانتيل شاو" الجزء6 و الاخير
هروب إلى المجهول
-غرايس! افتحي الباب أو أقسم أنني سأكسره . ربضت غرايس على طرف السرير تراقب الباب الخشبي الثقيل . إن خافيير لا يمزح ، لذا خشيت أن يسقط الباب تحت وقع ضرباته خلال دقائق . هل تجرؤ على إدخاله؟ ماذا يمكنها أن تقول له؟ وكيف تواجهه من دون أن تكشف انكسار فؤادها الذي أدى بها الى البكاء والنحيب بصمت على الوسائد خلال الساعة الأخيرة الماضية؟ -غرايس! هل انت مريضة؟ توريس يقول إنك لم تكوني على ما يرام . اللعنة ... تكلمي! تبعت تلك الكلمات موجة من اللعنات أطلقها خافيير بنبرة إسبانية خافتة، تلاها صمت وجيز ، ثم سمع صوت شيء ثقيل يرتطم بالباب . بدا لها كما لو أنه سيحطم القصر بأسره . شعرت غرايس بالغضب فيما تعثرت وهي تهب واقفة عن السرير ، ومشت بخطوات واسعة نحو الباب . أدارت المفتاح ، ثم جذبت الباب ففتحته فيما كان خافيير يوشك على إسقاط ضربة أخرى عليه مستخدما إحدى كراسي خشب السنديان الصلبة التي تقبع عادة في الممر . -ماذا تريد؟ -ماذا أريد انا؟ أخفض خافيير ببطء الكرسي وحملق بغرايس . بدا جذابا ومثيرا بشكل مدمر ، أحست غرايس بالوهن في ركبتيها ، فقبضت على إطار الباب حتى تسند نفسها . تشدق خافيير متهكما :" هل هنالك سبب مقنع لنوبة الغضب هذه أم أنها ببساطة محاولة للفت الانتباه؟" ردت غرايس بلطافة :" أنت على الاقل تتمتع بالصدق الكافي لتعترف أنني مضطرة لأن أفعل شيئا ما حتى اجذبك من تحت وقع سحر لوسيتا اليافعة. أخبرني بصراحة خافيير ، لماذا لم تتزوجها بكل بساطة عوضا عن جعلي أخوض هذه المهزلة البائسة؟" زمجر خافيير بوحشية :" عل استنتج أنك تقصدين زواجنا (بالمهزلة البائسة)؟" التمعت عيناه بالغضب الشديد فيما دفع بغرايس الى الخلف في الغرفة ، وتابع دفعها حتى ارتطمت رجلاها من الخلف بالسرير ثم سقطت على الفراش . استطاع خافيير ان يلاحظ الدموع على خديها تحت ضوء الغرفة ، فضاقت عيناه واستفسر بنبرة أرق :" ما سبب هذا كله ، هممم ؟ هل قالت لوسيتا شيئا أغضبك؟ أدرك أنها مغيظة احيانا ، لكنها لا تقصد أي اذى ". أطلقت غرايس ضحكة مريرة ، وقالت :" أهذا صحيح؟ حسنا! أنت تعرفها أفضل مني . أتظن أنني لم ألاحظ كيف التفت ذراعاها حولك هذه الليلة؟" قال خافيير بنزق :" أعرف لوسيتا منذ كانت طفلة! أعتقد أنني أنظر إليها كما لو أنها شقيقة صغرى لي لم أحظ بها يوما " . -كم هذا لطيف! وهل تأتمن (شقيقتك) على أسرارك ، خافيير؟ هل تطلعها على أسرارك الشخصية جدا ... كسبب زواجك بي مثلا؟ أنكر خافيير بقوة قائلا :" أنا لم أخبر أحدا . الشخص الوحيد الذي يعرف الشروط التي فرضها جدي في وصيته هو محاميه رامون أغويلار ". الشروط ! اذا هنالك من شرط ، ولوسيتا لم تكن تكذب . لاحظت غرايس مرتعشة . لا بد أن الشرط النهائي في وصية كارلوس هيريرا هو ضرورة إنجاب خافيير وريثا قبل أن يحصل على موقعه في رئاسة مصرف هيريرا . فجأة أحست بالارهاق حتى عظامها ، قذفت غرايس الاتهامات نحو خافيير :" حسنا! لوسيتا تعرف ، وانت اخبرتها. لا بد أنك فعلت ذلك .... كيف تراها علمت اذا؟" اضافت غرايس جملتها الأخيرة حين ظهر خافيير فوقها وقد تراقص لهب الغضب في عينيه الكهرمانيتين . تابعت بمرارة :" ظننت أنني أستطيع أن اثق بك . لكن يبدو ان احكامي في ما يتعلق بالرجال تخطئ على الدوام!" أحست بارتعادة تمر بجسدها ، فتراجعت الى الوراء مبتعدة عنه عندما حاول سحبها بين ذراعيه ، وقالت :" لا تلمسني ! لا اريد ان تكون لي أية علاقة بك بعد الآن . من الآن فصاعدا سوف انام في غرفتي الخاصة حتى ننهي هذا الزواج المهزلة ". -لا تحلمي بذلك مطلقا ! أحبط خافيير محاولتها للنهوض عن السرير ، فرفعها عن قدميها ورماها على الفراش بوحشية تكاد لا تخفى . ثم قال :" انت توجهين الاتهامات من دون ان تسمحي لي بقول أية كلمة دفاعا عن نفسي ، لكنني لا آبه البتة لما تظنينه عزيزتي . انت لي . اشتريتك ودفعت ثمنك ، وسوف أسمح لك بالانصراف من سريري عندما اكون انا مستعدا. وليس قبل ذلك ". همست غرايس من بين اسنانها وهي تقاومه بوحشية:" لا يمكنك أن تفعل ذلك. انت .... أيها البربري!" قال خافيير بضحكة خشنة :" من سيوقفني؟" التوى فمه في ابتسامة فظة فيما راقب حدقتي عينيها تتسعان . الامر الوحيد الذي يثق به هو انجذابها إليه ، وهو الآن بالذات لا يأبه لأي شيء آخر. -انت لن توقفيني غرايس، وكلانا ندرك لماذا . كيف تراها تستطيع ان تكون ضعيفة الى هذا الحد بحيث ان لمسة واحدة من يديه كافية لجعلها تشعر بمثل هذا الوهن؟ نعقت غرايس تسأله :" لماذا؟" لم يظهر أية لمحة من الرقة في عينيه اللامعتين حين رد عليها وعيناه تلتمعان بوهج الانتصار :" لأنك لا تقدرين على مقاومتي. لأنك تحتاجين إلي". للحظات قليلة بدا لغرايس كما لو ان قلبها توقف فعلا عن الخفقان ، فلعقت شفتيها متوترة برأس لسانها . راحت تجاهد لكي تبدو باردة ومسيطرة على نفسها فيما فشلت بشكل مريع بذلك .سألته :" ما الذي يجعلك تظن ذلك بحق السماء؟" رد خافيير ببساطة وهو يلاحظ عينيها تغشيان بالارتباك :" انت أخبرتني. لعلك لم تقولي ذلك بالكلام لكن تصرفاتك قالته . لماذا اذا جئت الى غرفتي في مدريد ورغبت بأن نقيم علاقة حميمة؟ كنت متصلبة الرأي بخصوص إقامة علاقة حميمة مع رجل لا تحبينه". ذكرها خافيير بذلك فيما بدت غرايس فاقدة للقدرة على الكلام ، ثم تابع :" لكنك لا تقدرين على نكران الشغف الحاد المحترق بيننا ". آه! كيف استطاعت ان تكون واضحة جدا بمشاعرها؟ لا بد أنه كان يضحك منها في سره خلال الاشهر الماضية . أحست بالاذلال التام ، فارتعدت منتفضة . استجمعت شجاعتها ، وأجبرت شفتيها على إظهار ابتسامة . -أنت محق خافيير . انت قلت بنفسك ان الشغف القائم بيننا إحساس قوي جدا ، وانا ذهبت إليك يومها لأنني قررت أنه حان الاوان لأتوقف عن التصرف كراهبة .قررت الاستفادة من مهارتك المعروفة . انها سمعة تستحقها جيدا ". رد خافيير بلطافة ، لكن ابتسامته لم تخدعها اذ قال :" يسعدني ان هذا ما تظنينه ". أحست غرايس بالغثيان يطوف في داخلها ، فوضعت يديها لتمنعه عن ذلك . بالرغم من كل شيء عرفته الليلة فهي ما تزال تحبه . بالرغم من ان هذا الادراك جعلها تشك في سلامة عقلها ، إلا انها لا تحتمل أن يتصرف معها خافيير بغضب وقوة ، فيحول كل ما وجدته جميلا في علاقتهما الى عمل انتقامي بدائي . فكرت بهلع : ماذا عن الطفل؟ بعد كل ما أخبرتها به لوسيتا ، لم تجرؤ على إخبار خافيير أنها قد تكون حاملا بطفله . إنها بحاجة الى تمضية بعض الوقت بمفردها لتتعمق بحقيقة حبلها ، قبل أن تواجه خشيتها من انه سيرغب بانتزاع الطفل منها حين يطلقها . توسلته غرايس :" لا أرجوك . لا تجعلني أكرهك". زمجر خافيير بوحشية :" أتظنين أنني أهتم؟ الحب .... الكراهية ... إنهما سيان بالنسبة إلي ". لكنه لاحظ التماع الدموع في عينيها ، فأطلق لعنات طويلة وقاسية . -يا إلهي! غرايس، ما الذي تفعلينه بي؟ قفز ناهضا على قدميه . أما عيناه فالتمعتا بالمقت والغيظ . -لا يمكن ان تكرهيني أكثر مما أكره نفسي. لطالما عرفت أنني شخص غير محبوب ... سمعت ذلك مرات عديدة . أخبرها خافيير ذلك بنبرة عادية خالية من الاحاسيس كذبتها ملامح الألم البادية في عينيه . ثم اضاف بخشونة :" كيف تراني أملت بأنك مختلفة عن الآخرين ، وبأنك رأيت في شيئا ليس باردا ومريرا؟" -خافيير! أحست غرايس ان البؤس البادي على تعابير وجهه يمزق قلبها، فمدت يدها نحوه . لكن يدها سقطت الى الوراء ضعيفة الحيلة حين تصلب خافيير واستدار مبتعدا عنها . قالت :" أنا لم اقصد أبدا ... أنا لا اظن أنك من دون قلب ...". توقفت عن الكلام وغشيت عيناها عندما تذكرت تلميحات لوسيتا اللاذعة ، حين قالت لها إنه تعمد جعلها تحبل منه لأنه بحاجة الى وريث . قال لها ببرود :" اذا اقترح عليك ان تراجعي رأيك بي، عزيزتي . لأنني عديم الرحمة تماما كأسلافي الاربعة الذين عاشوا هنا في قصر الأسد." أطلق خافييؤ ابتسامة قاسية وقال :" هل أخبرتك ان كارلوس رفض السماح لوالدي بزيارة جدتي حتى وهي على فراش الموت ، مع انها توسلته لكي ترى أبنها؟ كان فرناندو ابنها الوحيد ، لكنه عارض رغبات جدي فتزوج من والدتي ، لذا طرده من القصر نهائيا . منذ وصولي الى هنا وانا صبي نحيل تعلمت ان القوة هي كل شيء ، اما الحب فلا قيمة له ". أحست غرايس كما لو ان يدا باردة من الخوف والهلع تطبق على قلبها ، فهمست :" وهل ما زلت تؤمن بذلك ، خافيير؟ هل أنت مستعد حقا لأن تفعل اي شيء لتستلم السيطرة المطلقة على مصرف هيريرا؟" أجابها خافيير وهو يسير متجها نحو الباب :" انت تعرفين الجواب على ذلك . لا تظهري الدهشة الى هذا الحد . عزيزتي ، عرفت جيدا ما الذي ستواجهينه حين قبلت بهذا الزواج ، وما زالت أمامك ستة اشهر او ما يقاربها كزوجة لي . عليك ان تعتادي الفكرة ، لأننا عقدنا اتفاقا ولن اسمح لك بالمغادرة حتى تسددي الجزء المتعلق بك منه ". تلك الليلة نامت غرايس نوما متقلبا متشنجا ، ثم استفاقت لتجد نفسها وحيدة في السرير الضخم . لم تكن لديها ادنى فكرة أين أمضي خافيير ليلته .لكن حين ضربتها موجة من الغثيان استوجبت منها رحلة طارئة الى الحمام ، شعرت بالامتنان لعدم وجود خافيير حتى يسألها عن سبب توعكها . لا يمكنها البقاء في هذا القصر وهي تعلم ان هذا الكائن الحي الحساس الذي ينمو في احشائها ، هو آخر دفعة في حساب هذا العقد التي أجرته مع خافيير . إن مصلحة طفلها وتربيته ليستا مسألة قيد المناقشة والبحث . ما دامت تمتلك نفسا وروحا في جسدها سوف تحارب لأجل الحصول على حضانة وريث آل هيريرا . طفلها سوف يتربى بأمان معها هي التي عرفت الحب غير المشروط ، على العكس من والده الذي حرم من العاطفة خلال سنوات عمره الاولى . أحست غرايس ان الدوار بدأ يزول عنها ، فرمت بسرعة القليل من أغراضها الى الحقيبة ، بينما حرصت على ان توضب فقط الاغراض الاي احضرتها معها من انكلترا ولا شيء مما اشتراه لها خافيير . عندما تسللت الى الطابق السفلي بدا القصر هادئا على غير عادة ، لكنها ما ان دخلت غرفة الطعام حتى توقفت تماما لدى رؤيتها للوسيتا فاسكيز . استفسرت غرايس بحدة :" أين خافيير؟" وهي مدركة لشحوبها مقارنة مع جمال هذه الفتاة الاسبانية الرائعة الجذابة . قالت لوسيتا بتجهم :" انطلق مسرعا الى مكان ما مع لوكا بعد ان ألقى علي محاضرة نلؤها التأنيب . هل كان عليك ان تدخليني في عراككما السخيف؟" أطلقت غرايس ضحكة خشنة ، وقالت :" انت ادخلت نفسك . اذا كان خافيير غاضبا منك ، فلا تلومي إلا نفسك . حان الوقت لكي يقول لك احدهم بءن تنضجي ". قطعت كلامها وعضت على شفتها عندما حدقت لوسيتا مشككة بحقيبة أغراضها . استفسرت المرأة اليافعة بنبرة حلوة عذبة :" آه ،يا آلهي! أنت لست راحلة ، أليس كذلك؟" غمغمت غرايس :" انا ذاهبة لزيارة والدي ... لبضعة ايام ". فيما رفضت ان تعترف ان لا نية لها بالعودة . التمعت عينا لوسيتا السوداوين فجأة وقالت :" أحقا؟ بعد ان تبتعدي عن طريقي ، سوف تسنح لي الفرصة لأتصالح مع خافيير". رمت رأسها الى الوراء بحيث تطايرت خصلات شعرها المجعدة حول كتفيها ، وتابعت تقول :" اسديني خدمة ، ولا تسرعي بالعودة". تمسكت غرايس بكرامتها ، فأخرجت مفاتيحها ومشت مسرعة خارج القصر ، لكنها احست بالدموع تغشى عينيها وهي تركض نزولا على الدرج . كانت يائسة للابتعاد من هنا قبل عودة خافيير ، لذا انزلقت وراء مقود السيارة الرياضية الفاخرة التي كان قد اشتراها لها وأدرات المحرك . ان الثلوج التي تغطي عادة قمم جبال السييرانيفادا لم تصل الى مستوى القصر ، لكن الأمطار الغزيرة كانت تعيق رؤيتها ، بالرغم من ان مساحات الزجاج الامامي كانت تعمل بسرعة مزدوجة . بعد دقائق عاى مغادرة غرايس القصر بدأت تحاول يائسة ان تقطع الطريق المنحدرة الملتوية . قبضت بقوة على المقود، فيما تذكرت أول مرة قادت فيها سيارتها الى قصر الاسد . تساءلت غرايس فيما انهمرت الدموع بغزارة على وجهها ، لو أنها علمت حينها أنها سوف تخسر قلبها لصالح الدوق المتصلب الوجه ، هل كانت ستأتي؟ أما الجواب فهو نعم بكل صراحة . كانت مستعدة لأن تفعل أي شيء من أجل مساعدة والدها ، أما الآن فيجب ان تحمي طفلها . ما ان استدارت حول المنعطف التالي ، حتى رأت سيارة متجهة نحوها ، ولصدمتها الكبرى أدركت ان الرجلخلف المقود هو خافيير . أصابها الذعر فضغطت على دواسة الوقود ، بحيث انطلقت السيارة الرياضية القوية بسرعة الى الامام ، فانحرفت الإطارات على الطريقةالمبللة بالماء ، وفجأة بدأت غرايس تندفع بعنف نحو الاشجار التي تقف حاجزا بين الطريق والهاوية السحيقة . راحت تندفع بسرعو قصوى ولم تقو على التوقف ، فصرخت قبل ان تغوص في السواد والظلام . *************** -غرايس ، افتحي عينيك . سمعت غرايس مجددا هذا الصوت غير المرتبط بشخص محدد ، فأجبرت نفسها على فتح جفونها لتحدق الى الاعلى نحو وجه غير مألوف . -من.....؟ همست غرايس ذلك بوهن ، فابتسم الشخص الغريب برقة ، وقال :" تعرضت لحادث سيارة ، لكن كل شيء سيكون على ما يرام . ان زوجك هنا ". بالكاد سمعت غرايس كلمات الطبيب التي بدت لها مبهمة ، وراحت تومض في ذهنها صور متكسرة : الاشجار تتسارع باتجاهها بسرعة لا تصدق ، صوت الزجاج الامامي يتكسر .... ملأها شعور بالهلع التام وقالت :" طفلي....؟" سمعت تأوها متقطعا من الجانب الآخر للسرير ، لكن جل انتباهها كان مرتكزا على الطبيب وهو يهز رأسه ببطء . -أنا آسف . كنت في المراحل الأولى للحملة، وقد بذلنا كل ما بوسعنا . ادرك ان ذلك لا يواسيك الآن بالتحديد ، لكن جراحك خفيفة نسبيا . وليس هنالك من سبب يمنعك من ان تنجبي طفلا آخر في المستقبل . ربت الطبيب على كتفها بلطف ونهض ، ثم تمتم قائلا لخافيير :" سوف ادعكما بمفردكما الآن . زوجتك محظوظة جدا ، فالاشجار عملت كحاجز منع سيارتها من السقوط والتحطم على جانب الجبل . جراحها سوف تشفى ، لكن لا بد ان خسارتكما لطفلكما أمر مدمر بالنسبة اليكما". أغمضت غرايس عينيها ، فتسربت الدموع من تحت جفنيها . أحست كما لو ان قلبها قد انتزع من مكانه ، ورغبت في البقاء بمفردها حتى تبكي خسارتها . هل رحل خافيير؟ فتحت غرايس عينيها فلاقت نظراته الغامضة . بدا وجهه كما لو انه منحوت من الرخام ، ولاحظت وهي تحدق به أن الغضب يكاد يقفز من عينيه . فهمست :" أنا آسفة!" بالرغم من انها لم تعلم لماذا هي آسفة . انها تأسف على نفسها في الحقيقة وعلى طفلها الذي خذلته بشكل مريع . انهمر المزيد من الدموع من عينيها ، فيما راقبها خافيير من دون ان يبدو اي وميض من الاحساس على وجهه . ثم قال بصوت خشن :" انت لم تنوي إطلاعي على خبر حملك بهذا الطفل . أليس كذلك؟" اجابته غرايس بمرارة :" كيف يمكنني ان أفعل ذلك بعد ان علمت من لوسيتا انك تعمدت ان تجعلني احمل بولدك .وأنك كنت تنوي ان تأخذه ... أو تأخذها مني بعد طلاقنا". تلعثمت غرايس وقالت مجبرة نفسها على المتابعة :" أنا أعرف بخصوص الشرط النهائي في وصية جدك" زمجر خافيير وهو يبذل جهدا لإبقاء صوته منخفضا :" يا إلهي! ليس هنالك شرط نهائي . ان ما سمعته واخترت تصديقه هو نتاج مخيلة حقودة مكايدة لفتاة مدللة أصبحت مهووسة بي أكثر مما تصورت ". حدقت غرايس به باستغراب ، وهي غير قادرة على استيعاب ما يقوله لها فقالت :" لكن لوسيتا..." -أخبرتك برزمة من الأكاذيب . أنا لم أخبرها ابدا بسبب زواجنا ، لكن جدي ووالدها كان صديقين ، فسمعت بالصدفة كارلوس وهو يخبر ميغيل عن شرط الزواج الذي أضافه الى وصيته . أما بقية ما قالته فهو مبتكر. -لكنها بدت مقنعة جدا . همست غرايس بذلك فيما استوعبت فداحة ما فعلته حرمت خافيير من فرصة الدفاع عن نفسه ، وعوضا عن ذلك استمعت بكل بساطة الى فتاة مراهقة تشعر بالغيرة منها . ها هي قد دفعت ثمن عدم ثقتها بخافيير فخسرت طفلها الذي لم يولد بعد . من النظرة التي ظهرت في عيني خافيير ، أدركت انها خسرت ايضا أية فرصة لأن تربح حبه ، وهذا الادراك لا يحتمل . لذا أدرات راسها بعيدا عنه . -غرايس......! النبرة اللطيفة غير المتوقعة مزقت قلب غرايس تمزيقا فرفضت ان تنظر إليه . إنها غير قادرة تحمل المقت الذي ستراه في وجهه . خبأت وجهها بيديها ، فقالت :" أرحل ، خافيير! فقط ارحل ، ودعني لوحدي".
سيدة القصر
وقف خافيير أمام باب غرفة نوم غرايس ، فاصغى الى صوت نحيبها المكبوت . فكر بوحشية ان هذا الوضع لا يمكن ان يستمر . مضت ستة أسابيع منذ ان اعادها من المستشفى الى المنزل وما زال الأمرعلى حاله : هو يتربص في الممر خائفا من الدخول والمجازفة برفضها ، بينما تقبع هي وحيدة باكية . إنه مستعد لفعل اي شيء حتى يراها تبتسم مجددا. ان تعاستها تمزقه إربا ، والاسوأ من ذلك معرفته انه هو المسؤول عن دموعها . قال لنفسه بكآبة إنه ما كان يجدر به ان يتزوجها . كان يجدر به ان يتبع غريزته الأولية فيطردها من القصر حين زارته لأول مرة لتدافع عن قضية والدها ، لا ان يقع تحت إغراء ابتسامتها الخجولة المحيرة . إدراكه للسهولة التي سحرته بها جعله يشعر بالرعب . لطالما تمكن خلال سنوات عمره الستة والثلاثين من فرض سيطرة حديدية فولاذية على مشاعره ،ولطالما تفاخر بكونه محصنا ضد الحيل الأنثوية . لكن بشكل ما ، ومن دون ان يدرك ذلك ، تسللت غرايس خلف دفاعاته الى ان اصبحت كل ما يهمه في حياته . ان السماح لها بالرحيل قد ينتزع قلبه من مكانه . تقبل خافيير ذلك وهو يمسك بمقبض الباب . لكنه لا يستطيع الابقاء على حمامته الرمادية اسيرة قصره لفترة أطول . خرجت غرايس من الحمام المتصل بغرفة النوم ، فتوقفت فجأة لدى رؤيتها لخافيير واقفا عند طرف سريرها . لاحظت بعبوس انه فقد بعض الوزن ، أصبح وجهه نحيلا ذا فجوات عميقة عند جانبي فمه ، لكنه ما زال أروع رجل رأته في حياتها ، فأحست بذاك الألم المعهود حول قلبها . عاملها خافيير بلطف خلال الاسابيع الماضية ، فتحت تحفظه البارد ايقنت غرايس انه يمتلك قلبا حنونا . بالرغم من معاملتها الفظة له حين لم تثق به ، لم يلمها يوما على خسارة طفلهما . لعله لم ير أي داع لذلك في حين انها تلوم نفسها بنفسها . إدراكها لحملها كان أمرا جديدا عليها . بالكاد تسنى لها الوقت لقبول ذلك حتى انتزعت منها سعادتها . بكت غرايس الى ان أحست كما لو ان قلبها سينفجر على خسارة هذه الحياة الصغيرة التي حملتها لفترة وجيزة . أما خلال الليالي القليلة الماضية ، فانهمرت دموعها بدافع اليأس ، لأنها واجهت حقيقة ان خافيير لن يحبها أبدا . وجه خافيير لغرايس نظرة وجيزة ذابلة ، فيما تحركت هي متجهة نحوه . أعاد انتباهه الى الصور المنثورة على السرير ، وقال :" أستنتج أن المرأة في الكرسي ذي العجلات هي والدتك؟!" تكلم بهدوء وهو يحدق بالابتسامة الساكنة البادية على وجه المرأة التي انعمت على غرايس بجمالها الرقيق ، ثم تابع :" لم أدرك أنها لم تكن قادرة على السير ". أومأت غرايس ثم التقطت إحدى الصور الفوتوغرافية وقالت :" لسوء الحظ ، فقدت والدتي القدرة على استخدام رجليها خلال المراحل الاولى لمرضها . لكن حتى خلال أسوأ لحظاتها لم تتوقف عن الابتسام". أخبرته غرايس بذلك وصوتها يرن والفخر تجاه والدتها . -هل اعتنيت بها في المنزل؟ -نعم . في بادئ الأمر تدبرنا والدي وانا الأمر بنفسينا ، لكن عندما أصبحت تتألم كثيرا ، أمن لها والدي ممرضات مختصات للعناية بها على مدار الساعة . كان ذلك مكلفا بالطبع ، كذلك كانت الرحلات الى لورد الفرنسية والاماكن الأخرى ، حيث كانوا يعدونه بالعلاجات العجائبية . ذلك كل ما تبقى لوالدي ان يأمل فيه .... وبالطبع لم ينفع اي منها . أطلعته غرايس على ذلك بحزن ، وتابعت :" لكنه احبها إلى درجة جعلته مستعدا لأن يفعل أي شيء لإنقاذها .... حتى سرقة الاموال منك". أضافت غرايس جملتها الأخيرة بصوت ابح ، قبل ان تضيف :" بالرغم من كل ما حدث ، أنا لا استطيع لومه . إنها حب حياته .... لكنني لا اتوقع منك ان تفهم ". سألها خافيير بخشونة :" هل تظنين ذلك لأنني لم اختبر الحب من قبل ولا أعترف به ، كما انني لا احترمه لدى الآخرين؟" وجهت غرايس له نظرة مدهوشة :"انت اخبرتني بنفسك أنك لا تؤمن بالحب ". قال :" يا إلهي! تفوهت بالعديد من الاشياء اللعينة الغبية . هل سترمينها كلها في وجهي من جديد؟ ان اي شخص ينظر الى صور والديك لا يمكن إلا ان يلاحظ الحب الذي تشاركا به . لا بد ان موت والدتك دمر والدك . لو انني اصغيت إليك عندما جئت إلي ، لعلني كنت سأفهم اسباب تصرفه ، وسأشعر بالتعاطف معه ، عوضا عن إصدار الحكم الصارم وإجبارك على الزواج مني ". أدار خافيير وجهه ، فكادت غرايس تبكي بسبب قوة المشاعر البادية في عينيه . همست برقة :" لم يكن الأمر هكذا . كان الخيار بيدي، وأنا أخترت الزواج بك ". حدق خافيير بالصورة ، ثم دفعها نحوها قائلا :" انت وافقت على عرضي فقط بدافع الحب لوالدك . لم يكن ذلك ما تريدينه . انت اعتبرت زواج والديك السعيد نموذجا ترغبين به لمستقبلك ، لكن ما الذي أعطيتك إياه أنا؟ إنه عقد عمل خال من المشاعر ، وتوقعي منك بان تقسمي بعهود مهمة جدا بالنسبة إليك ، وانت تعرفين أنها أكاذيب . أنا راقبت وجهك في الكنيسة غرايس ". قال خافيير ذلك بصوت ابح قبل ان يتابع :" أدركت كم آلمك ان تقولي هذه الكلمات لي انا عوضا عن قولها للرجل الذي تحبينه وتأملين بتمضية بقية حياته معه ". تمشى نحو الموقد الحجري الضخم ، فحدق نحو اللهب المتراقص في داخله . وفجأة شتت الصمت بينهما ، فقال :" يجدر بك العودة الى انكلترا . أنت حزينة وبشرتك باهتة وشاحبة جدا ، لذا انت بحاجة الى تمضية بعض الوقت مع الاشخاص الذين يحبونك". -فهمت! أحست غرايس بشق من الألم يقطع جسدها ، لكنها رفضت ان تسمح له رؤية ألمها . ليس بمقدوره ان يوضح لها بشكل أبسط وأوضح أنه لا يحمل أية مشاعر تجاهها . فكرت بذلك وهي تمسح دموعها عن وجهها بنفاد صبر . لعله سئم من رؤيتها تبكي على الدوام . عضت على شفتها السفلى حتى شعرت بطعم الدم . أجبرت صوتها على ان يبدو خاليا من المشاعر، فسألت :" متى ..... تريدني أن .... أغادر؟" أجابها خافيير وهو يهز كتفيه :" حين يلائمك الأمر. غدا ، اذا أحببت ". أحست بلا مبالاة كالسكين المغروز في صدرها ، فخنقت تنهيدة كادت تخرج منها . وفيما وقفت بصمت متمنية أن يذهب ويتركها وحيدة مع بؤسها ، تكلم خافيير مجددا قائلا :" غرايس .... اريدك ان تعلمي أن الاشهر القليلة المنصرمة التي عشت فيها هنا في القصر كانت الأسعد في حياتي .... باستثناء الاسابيع القليلة الأخيرة ، التي كانت كالجحيم ". أضاف ذلك بنبرة هامسة غير مصطنعة . كان خافيير ما يزال يحدق بالنار ، فيما أدار وجهه بعيدا عن وجهها كما لو انه يتعمد تجنب نظراتها ، لكن اعترافه المفاجئ عنى كثيرا بالنسبة الى غرايس. فطالبته وهي تسير نحوه :" في هذه الحالة ، لماذا ترسلني بعيدا؟" تعثرت وهي تستعجل للاقتراب منه فوطأت على ذيل قميص نومها . تمتمت لعنة وهي تجمع القماش بيدها ثم تقف أمامه . قالت بحدة :" ما زال هنالك ما يزيد عن الاربعة اشهر من عقد زواجنا ، وأنا مستعدة تماما لاحترامها . اعتقدت انك تحتاجني هنا حتى تقنع أفراد مجلس إدارة المصرف أنك ما عدت تعيش حياة الرجل الماجن اللعوب ، بل انت رجل متزوج سعيد ". للحظة لم يقل خافيير شيئا بل ببساطة أزلق انامله داخل شعر غرايس فداعب الخصل الحريرية وصولا الى خصرها ، ثم قال :" انا استقلت من منصبي في مصرف هيريرا ، وتخليت عن كل حقوقي به . من الآن فصاعدا سيحصل نسيبي لورنزو على السيطرة التامة ". -لكن .... ! المصرف هو كل شيء بالنسبة إليك .... اهم شيء في الدنيا . من فرط اهتمامها لأن تفهم ما يجري ، قبضت غرايس على مقدمة قميصه فحدقت الى الاعلى نحوه ، وتابعت تقول :" لست مضطرا الى التخلي عنه الآن ، في حين انك اوشكت على ربح مكانك ". اغمضت عينيها وقد اشرق عليها فجأة الفهم ، ثم قالت وقد تجمعت الدموع في حلقها :" لهذا السبب ستعيدني الى انكلترا . أليس كذلك؟ لا يمكنك ان تنتظر أربعة اشهر أضافية لتفسخ زواجك بي . لا بد انك تكرهني كثيرا بما أنك مستعد لخسارة حقك بالولادة ، عوضا عن البقاء متزوجا مني لأشهر قليلة قصيرة". انفجر خافيير نافيا :" بالطبع انا لا اكرهك!" قبض على كتفيها واجبرها على النظر إليه ، وقد رقت نظراته لدى رؤية البؤس المذل في عينيها ، فتابع :" كيف يمكنك ان تظني ذلك أبدا؟" قالت غرايس من بين دموعها :" الذنب يقع علي لخسارة الطفل . لو انني وثقت بك اكثر ، عوضا عن الاصغاء الى اكاذيب لوسيتا ، لبقيت حاملا بطفلنا". أطلق خافيير ابتسامة خشنة وقال :" ظننت انني اريد هذا الطفل فقط لإتمام شروط وصية جدي . حتى انا لست عديم الرحمة الى هذا الحد عزيزتي ، لكن اعتقادك انني قادر على قسوة من هذا النوع هو دليل رأيك بي . حسنا! بعد الأسلوب الذي عاملتك به، فأنا أستحق كرهك ". بدا وجهه كالقناع المشدود فيما جاهد للسيطرة على أحاسيسه . سوف يسنح له ما يكفي من الوقت بعد رحيل غرايس حتى يتعلمل مع اليأس الذي يهدد بالسيطرة عليه . جذبها الى صدره ، فأحس بالدموع تبلل قميصه ، فتوسلها بصوت أبح :" لا تبكي غرايس حان الوقت لأنهاء هذا الجنون . أنت حرة لترحلي إلى منزلك .... إلى والدك ، وأعدك ان انغوس آمن من الملاحقة القانونية . لو كنت في مكانه واقفا أراقب بعجز معاناة المرأة التي أحب ، لفعلت ما فعله بالضبط ". أعترف خافيير بذلك بصوت خافت جدا الى درجة ان غرايس اضطرت الى ضغط جسدها عليه حتى تسمعه ثم تابع :" أنا اسامحه عزيزتي ، وآمل أنك ستسامحيني يوما ما لأنني سببت لك الأذى". -أنت لم تؤذني أبدا .... أقله ، ليس عمدا . قالت غرايس ذلك بحزم فيما ألقت خدها على صدره وأصغت إلى ضربات قلبه غير المنتظمة . انها قادرة على البقاء هكذا الى الابد ، لكنها على الارجح تحرجه. أقرت بذلك بأسف ، فهي تعلم كم يكره خافيير اشارات العاطفة . استنشقت نفسا عميقا وخرجت من بين ذراعيه لتتمكن من رؤية وجهه بوضوح . أحست غرايس أنه كرمها واحترمها بأعترافه أنه يتعاطف مع والدها ، لذلك يجدر بها ان تكافئ صدقه بصدقها معه . لطالما اعتقد خافيير طيلة حياته بأنه يتمتع بنقص او عيب ما . كانت والدته قد أخبرته انه غير محبوب ، لذلك لا عجب أنه قام ببناء سور دفاعي حول قلبه . كان الغرور قد دفع غرايس الى نكران مشاعرها تجاهه ، وهي تصرفت بفظاظة معه حين جعلته يعتقد أنها لا يمكن ان تحبه أبدا . كم كان مخطئا بظنه! تمتمت وهي ترفع ذقنها حتى تلاقي نظراته بكل شجاعة :" الذنب ليس ذنبك لأنك لا تحبني ، فأنت اوضحت منذ البداية بأنك لن تحبني ابدا . الذنب ذنبي انا . عندما اتخيل فكرة التخلي عنك ... وعدم رؤيتك مجددا .... ذلك يفطر قلبي ". تجاهلت نظرة عدم التصديق والاندهاش البادية في عينيه ، فتابعت كلامها :" انا لا أعتقد أنك بارد ومتحجر القلب ، خافيير . فأنت تتحلى بالقلب الحنون وبالحب في داخلك كأي رجل آخر ... وربما أكثر ، لكن طفولتك علمتك أن تدفن مشاعرك وتقفل عليها في داخلك بانتظار المرأة المناسبة التي تدير المفتاح فتحررها". فجأة لم تعد غرايس قادرة على المتابعة ، فأدارت وجهها بعيدا عنه ، وسالت دموعها نزولا على وجهها . قالت بصوت فيه غصة :" أتمنى لو كنت انا تلك المرأة ، لأنني أحبك من اعماق قلبي . كنت محقا حين خمنت سبب قدومي إليك في مدريد . لم أقو على مقاومتك .... لكنني ما كنت لارضى بإقامة علاقة معك لو لم اكن أحبك ". -لماذا اذا كنت تنوين الرحيل عني؟ بعذاب يدفعه الإحباط أدارها خافيير حول نفسها وهزها بكل معنى الكلمة ، قبل ان يسحبها الى صدره الصلب . ثم غمغم بصوت أجش :" يا إلهي! عندما فتحت باب السيارة بالقوة ووجدتك مرمية فوق المقود ...." أحس خافيير بارتعادة تعبر جسده ، فأغمض عينيه لفترة وجيزة ، فيما أحرقت الدموع مؤخرة حلقه . آخر مرة بكى فيها هي حين كان في الثامنة من عمره ، حيث جلس متقوقعا تحت عربة والدته النقالة، بعد ان اقفلت الباب عليه وتركته وحيدا جائعا . منذ ذلك الحين تعلم السيطرة على مشاعره ، فذلك نظام دفاع عن النفس ضد التعرض للأذى . لكن غرايس استطاعت ان تخترق روحه ، فمزقت دفاعاته واحدة تلو الأخرى ، وتركته مكشوفا على طبيعته . ان ذكرى تلك اللحظات القليلة التي تلت الحادث ، حين ظن أنه خسرها الى الأبد ، كانت أقوى من ان تحتمل . لذا دفن خافيير وجهه في شعر غرايس ، فتسربت الدموع من تحته رموشه . ان خافيير وهو يمسح وجهه بعنقها ، ثم قال :" رفضت الحب طيلة حياتي الى ان اعتقدت فعلا أنني محصن ضده . لكنني أحبك غرايس أكثر مما ظننت أن بأمكاني أن أحب ". مرر خافيير انامله في شعر غرايس ، فأحنى وجهها حتى يتمكن من التحديق الى عينيها . توقدت عيناه الكهرمانيتان بأحاسيس قوية ، فتساءلت غرايس كيف تراها استطاعت ان تتخيله باردا . بدا كما لو أنه يعوض عن كل السنوات التي أقفل فيها على مشاعره فحبسها داخله . وقفت على اطراف أصابع قدميها حتى تطال وجهه ، فأمسكته بين يديها وعانقته بكل الحب المكبوت الذي أبقته مخفيا لفترة طويلة جدا . أحست به يتردد قبل ان يغمرها ، ببطء وعذوبة ، بمداعبة جعلتها ترتعش بين ذراعيه . أقر خافيير عندما رفع رأسه :" في بادئ الأمر رحت أخدع نفسي فأقول إنني مسيطر على الوضع . لم اقو على منع نفسي من ملامستك ، لكنني اقنعت نفسي ان هذا فقط مجرد انجذاب قوي بيننا ". التوى فمه في ابتسامة آسفة وتابع :" إنه أفضل انجذاب على الاطلاق . انا لم اختبر أبدا شغفا مماثلا وسعادة مماثلة في حياتي كلها . لكني لاحقا اضطررت الى إجبار نفسي على الابتعاد عنك خشية ان تدركي انت كم انا ضعيف حيالك ". همست غرايس بخجل :" ظننت ان هذا هو أسلوبك في إفهامي أنك لا تريدني سوى للفراش فقط ولا شيء أكثر. لطالما تقت لأن تعطيني اشارة صغيرة ما تثبت أنني اعني شيئا بالنسبة لك . ولكم شعرت بالغيرة من الإلفة التي تشاركت بها مع لوسيتا . أنا آسفة لأنني صدقت هي عوضا عن الوثوق بك ". غمغمت غرايس ذلك وهي تشعر بالخزي والأسف ، لكن خافيير عاد رفع ذقنها حين أخفضت وجهها . -لم أفعل سوى القليل حتى اكتسب ثقتك عزيزتي . لوسيتا لا تعني لي شيئا . أنت هي المرأة الوحيدة التي احببتها يوما ، وأقسم أنني سوف أحبك لبقية حياتي . انا فقط آسف لأن الامر تطلب أن اكاد اخسرك حتى أقر بالواقع . عانقها خافيير مجددا بشغف حاد ، لم يترك مجالا للشك أبدا بعمق حبه لها ، لفت غرايس ذراعيها حول عنقه وتعلقت به . أما هو فرفعها فجأة بين ذراعيه ، ومشى بخطوات واسعة خارج غرفتها فعبر الممر نحو غرفة النوم الرئيسية ، حيث وضعها في وسط السرير الضخم ذي الأعمدة الأربعة . -هذا هو المكان الذي تنتمين إليه . أغاظها خافيير بكلماته ، لكن على الفور تلاشت ابتسامته فتحولت تعابير وجهه الى ما يدل على التوق والشوق التامين . فقال :" قولي لي ان هذا حقيقي غرايس ، وليس مجرد وهم يرسمه لي يأسي الحاد . إذا تركتني الآن فسوف تأخذين قلبي معك ". ركعت غرايس ع السرير ووعدته بنعومة :" أنا لن أغادر إلى أي مكان . قصر الأسد هو منزلي ، وأنوي ان اعيش هنا معك ومع الاولاد الذين سننجبهم يوما، لبقية حياتي ". اضطرب صوتها قليلا عندما تذكرت الحياة الحساسة السريعة العطب التي خسرتها . إنها ليست مستعدة لتفكر بطفل آخر بعد ، لكنها تأمل ان تملأ القصر باطفال خافيير حتى لا يشعر بالوحدة مجددا في المستقبل . مدت يدها نحوه ، وهمست قائلة :" أريد ان اظهر لك كم أحبك فعلا . لقد عنيت كل كلمة من العهود التي قطعتها يوم زفافنا . لعلني لم أدرك ذلك حينها ، لكن روحي أدركت بأنك توأمها ، ولن أتركك مجددا ،حتى ليوم واحد ". امسكت به قريبا من جسدها ملامسة بشرته الحريرية برؤوس أناملها . -أنا أحبك ، غرايس . تحرك ليغرقها في عناق محموم محمل بلهفته واشتياقه لها . رفع رأسه بعد قليل ليقول :" لا تتركيني ابدا ". الحساسية الصادقة البادية في صوته جعلت قلبها ينقبض . أن جراح طفولته أثرت بعمق فيه ، وقد يستغرق الأمر سنوات من التطمين . سوف تخبره بحبها كل يوم ، بالكلام وبالفعل ، حتى يعرف كم يعني بالنسبة إليها . لف خافيير ذراعيه حولها وأمسكها قريبة منه، مداعبا شعرها بيده المرتعشة نوعا ما .ثم همس :" أنت حياتي ، عزيزتي . ولن أدعك ترحلين ابدا ". ضمته غرايس بعمق أكبر ، وقد أحبت الوهج الرقيق الذي ظهر في عينيه ، فقالت :" أكنت ستعيدني الى انكلترا حقا؟" -حتما . وكنت يأطلب الطلاق فورا . أحكم قبضته عليها وهو يقول ذلك ، فيما أطلقت غرايس شهقة مسموعة . تابع يقول:" ... وما ان نصبح غير مرتبطين بعقد الزواج الجهنمي ذاك . كنت انوي ان انتظر لفترة معفولة من الزمن ... لنقل ، أسبوعا واحدا قبل أن أبدأ بتطبيق مخططي ". -أي مخطط؟ سألته غرايس منقطعة الأنفاس ، فيما تلاشت نبضات قلبها لدى رؤيتها اللمعان الماكر في عينيه . -مخططي بأن اسعى وراءك وأتودد إليك بشكل لائق ، أدعوك الى تناول العشاء على ضوء الشموع ، واتصرف بشكل ساحر جدا يجعلك غير قادرة على رفضي عندما أطلب منك الزواج بي وقضاء بقية حياتك معي . تكور فم غرايس وقد خاب ظنها :" آه! أنا احب فكرة تناول العشاء على ضوء الشموع معك لكنني لا اهوى الطلاق ، لذا يجدر بنا أن نبقى سويا بكل بساطة ". -أعدك بذلك. أقسم خافيير ، وأمضى الدقائق القليلة التالية مظهرا لها بأساليب عديدة متنوعة وممتعة تماما كم ينوي البقاء مقربا منها . أخيرا افلتت غرايس نفسها من بين ذراعيه وجلست مستقيمة على السرير فقالت بجدية :" أنا لا أريدك ان تتخلى عن موقعك في رئاسة المصرف . إنه مهم جدا بالنسبة إليك ". أجابها خافيير بحدة :" لا شيء مهم بقدرك أنت. فأنا لا اريد ان تساورك أية شكوك حيال سبب زواجي منك ". جذبها بقوة لتعود الى ذراعيه وقال :" لورنزو مسرور لأننا ندير المصرف معا . لكن القرار يعود إليك ، عزيزتي أنا .... كيف سأقولها ....؟ كالمعجون بين يديك ". استنشق خافيير نفسا حادا حين تتبعت غرايس بيدها حدود فكه . تمتمت ببراءة :" انت لا تبدو لي كالمعجون ". *************** 《 الخاتمة 》 عند حلول ذكرى زواجهما الاولى قطف خافيير الورود لغرايس من حدائق القصر ، لكن الأشواك جرحت يديه ، فأصرت زوجته على ان يمضي بقية النهار في السرير معها حتى يشفى . عند حلول ذكرى زواجهما الثانية ، قطف الورود مجددا ، فأزاح الاشواك بعناية قبل ان يضع الباقة على السرير حيث كانت غرايس ترضع ابنهما الذي يبلغ الشهر من العمر . غمغمت غرايس وهي تناول خافيير ابنه ، ثم طمرت وجهها في البراعم المنفتحة قائلة :" خدا ريكو ناعمان كبتلات الورد . انه رائع جدا. أليس كذلك؟ أتمنى أن نرزق بالكثير من أمثاله ". -هل تمزحين؟ لا يمكنني ان اخوض تجربة ولادة أخرى مثل هذه . تذمر خافيير بارتعاد ، فيما تذكر الساعات الست عشرة المليئة بالآلام والعذاب وهو يراقب غرايس تعاني من آلام الولادة ، قبل ان يصل ريكاردو هيريرا أخيرا الى هذا العالم . حك شفتيه بنعومة فوق خد ريكو ، فأحس بقلبه ينبض بالحب ، ذلك الحب الذي ظهر في عينيه حين ابتسم لغرايس . فقال :" سوف نحبه من أعماق قلبينا ، لكنني أخشى بأنه سوف يكون طفلا وحيدا ، عزيزتي ". قالت غرايس بفرح وابتهاج :" هراء! أنا ارغب بإنجاب اثنين على الأقل ، وانت تعلم دوما أنني احصل على مبتغاي ". بعد مرور ثمانية عشر شهرا ، فعلت غرايس ذلك بالضبط ، انجبت توأمين من البنات هما روزا وسوزانا فرنت أرجاء القصر بأصوات ضحكات الأطفال . إن اسد هيريرا لن يمشي بمفرده بعد الآن!
النهاية
KiFach ntelechargiha fi pdf
ReplyDelete