الجزء الثاني
-عرين الأسد
قصر الأسد هو قصر ذو طراز مراكشي تم بناؤه في جبال سييرا نيفادا المرتفعة في القرن الثاني عشر ، وهو يطل على مدينة غرناطة.
راحت الطريق المؤدية الى القصر تزداد انحداراً كلما اقتربت ، فاضطرت غرايس الى نقل مقبض تبديل السرعة الى سرعة أعلى عندما واجهت انحناءً خطيراً آخر في طريقها. فكرت وهي تحدق صعوداً نحو القصر الذي بدا وكأنه يتشبث بقوة بتلك الصخور الشامخة على حافة الجرف المنحدر ، انها لو صعدت بسيارتها اكثر فقد تصل الى الغيوم.
بدت قمم الجبال البعيدة اكثر ارتفاعا ، وهي ماتزال مغطاة بالثلوج . بدا المنظر الطبيعي نضرا واخضر مع ان السماء تمطر . أقرت غرايس بكآبة ان الطقس الموحش يتلائم مع مزاجها .
لدى وصولها الى غرناطة قال لها مدير الفندق :" هطلت الامطار لمدة ثلاثة ايام وهو امر غير اعتيادي خلال هذا الوقت المتأخر من فصل الربيع . لكن انتظري ، فغدا سوف تشرق الشمس وسوف تجعلك سعيدة ".
فكرت غرايس متنهدة ان مدير الفندق لايعرف شيئا عن مزاجها ، فالأمر سيتطلب اكثر من مجرد تبديل في حالة الطقس حتى ترتفع معنوياتها . تخيلت للحضة وجه والدها الشاحب المنهك مرتميا على كرسيه وقد نبت شعر ذقنه . انهار مدير المصرف الفخور الانيق اللباس قبالة عينيها ، وحل محله رجل وصل الى آخر رمق من امكانياته .
- ليس هنالك مايمكنك فعله ، عزيزتي .
قال لها أنغوس ذلك محاولا من دون جدوى أن يبتسم . أدركت غرايس انه يحاول حماية ابنته الوحيدة ، إلا أن هذا شحذ تصميمها وعزمها لكي تفعل شيئا ما . والدها هو بطل بالنسبة اليها ، وهو بطل بالنسبة إليها ، وهو أروع رجل في العالم ، لكن المبلغ الهائل الذي اختلسه من المصرف جعل رأسها يدور في دوامة مع انها فهمت أسبابه ودوافعه . تلك السنوات التي قضاها في الاهتمام بصحة والدتها التي اصيبت بمرض الاضطراب العصبي الوظيفي دمرته تماما . بحث أنغوس في العالم بأسره طلبا لعلاج لهذا المرض العضال الذي لا شفاء منه . جرب كل شيء أملا في تخفيف معاناة زوجته المحبوبة ، بدءا من العلاج بالأعشاب الصينية إلى العلاج التكاملي والعلاجات المكلفة في الولايات المتحدة الاميركية .
في النهاية اتضح ان هذه العلاجات من دون جدوى ، فسوزان بيريسفورد توفيت منذ عامين ، قبل اسابيع قليلة من بلوغ غرايس الحادية والعشرين من عمرها . ومنذ اسابيع قليلة فقط علمت غرايس ان أنغوس حصل على الاموال الطائلة التي احتاجها لعلاج والدتها من المقامرة ، كما علمت ان ادمانه خرج عن السيطرة ما دفعه الى "اقتراض" الأموال لدفع ديونه من المصرف الاوربي ، وهو الفرع البريطاني لمصرف هيريرا .
لم تستطع غرايس اخفاء صدمتها لدى معرفتها بهول ما فعله والدها ، فنعق أنغوس قائلا :" لطالما نويت أن أسدد ما علي ؛ أقسم بذلك . كان بوسعي أن اعيد الاموال التي أقترضتها ، وأن أغلق الحسابات المزيفة التي فتحتها من دون ان يعلم أحد بذلك ".
أما الآن فهم يعلمون! قام أحد مدققي الحسابات باكتشاف بعض المخالفات ، ما اطلق سلسلة من التحقيقات الأكثر عمقا ، وتم التبليغ عن هذه المخالفات إلى رؤساء مصرف هيريرا . لم يكن بوسع غرايس سوى الوقوف جانبا ومشاهدة عالمها وهو ينهار ، والاهم من ذلك رؤية والدها يسقط الى الحضيض .
جرجرت غرايس ذهنها فأعادته الى الحاضر ، تابعت القيادة صعودا على الطريق التي تحف بها الاشجار على الجانبين ، والتي تتلاقى على شكل قوس في وسط الطريق . لكن ما إن التفتت السيارة حول منعطف آخر حاد جدا ، حتى شهقت وقبضت على عجلة القيادة . استطاعت أن ترى ببساطة حافة الطريق في الارض المقطوعة الاشجار ، وتخيلت السقوط المروع من فوق حافة الجبل .
تمتمت مقطوعة الانفاس :" يا إلهي! "
احست أن كفيها اصبحا رطبين بسبب التعرق حين صدمها إدراكها أن أية خطوة خاطئة يمكن ان تسبب لها الانقلاب بعنف من فوق حافة الهاوية إنها تكره المرتفعات أخذ رأسها يدور فيما قاومت الشعور بالغثيان الذي سيطر عليها. احست غرايس لوهلة بالرغبة في أن تستدير وتعود أدراجها لكن الطريق بدت ضيقة جداً لدرجة لاتسمح لها بمحاولة الالتفاف بالسيارة نحو الاتجاه الآخر. فضلاً عن ذلك ، فكرت بحزن أن لديها عمل يجدر بها انجازه : الوصول الى قصر الأسد ، موطن اسلاف عائلة هيريرا .
راحت تصلي لأن يكون الدوق الجديد موجوداً في المنزل . لم تلقَ أي من الرسائل التي أرسلتها إليه جواباً ، أما محاولتها للاتصال به هاتفياً فقد صدها فريق عمله البالغ الفعاليه . دفع اليأس بغرايس إلى السفر قاصدة مكاتب المصرف في مدريد ، ومن هناك سافرت بالطائرة إلى جنوب غرناطة ، حيث تم إعلامها بأن الرئيس يقيم في مقره الخاص في الجبال . أقسمت غرايس بحزن إنها سوف تقابل خافيير هيريرا ، أو أنها ستموت في محاولتها لفعل ذلك ، وركزت على الطريق الممتدة أمامها . شعرت بالارتياح حين استوت الطريق اخيراً ، وحين استدارت بالسيارة حول المنعطف التالي ظهر القصر الشامخ مرتفعاً أمامها . إنها قلعة مراكشية مهيبة . بدت رمادية وغير مرحبة تحت تأثير رذاذ المطر الخفيف .
راح قلب غرايس يتخبط بقوة حين خرجت على مهل من السيارة.
بدا القصر نموذجاً حقيقاً مؤثراً عن فن العمارة المراكشي . لكن عيني غرايس انجذبتا نحو الباب الأمامي الصلب المنيع ، الذي يحرسه من كلا الجانبين أسدان حجريان قابعان بصمت ، وهما يراقبانها كما لو انهما يرغبان بالانقضاض عليها . فكرت مرتعدة أنها لاترغب بالتواجد هنا عندما يحل الظلام .
لكن الدوق دوهيريرا هو الشخص الوحيد الذي يمتلك القدرة على انقاذ والدها .
كان المطر الخفيف قد بلل فستانها الخفيف الرقيق باعثاً القشعريرة في بشرتها. هرعت الى السيارة لتتناول الوشاح الرقيق الذي قذفته الى السيارة لتأخذه معها في آخر لحظة وهو مصنوع من اجود وأنعم أصواف الكشمير .
اقرت غرايس بأسف وحزن ان شراءه هو اسراف وتبذير مفرطين ، حتى قبل أن تكتشف مشاكل والدها المالية . لكنه على الاقل يشعرها بالدفء الآن وهي تلفه وتمسك به حول كتفيها .
اندفعت صعوداً على الدرج الأمامي للقصر ، وما إن رفعت يدها لتجذب الحبل الخاص بقرع الجرس حتى فُتح الباب وظهر أمامها شخصان .
ادركت على الفور أن أحدهما هو رئيس خدم القصر ، أما الآخر فهو رجل متقدم في السن ذو شاربين ملفتين للنظر .
تلعثمت غرايس قائلة :" جئت ... لمقابلة الدوق دو هيريرا ".
أحست بالامتنان لأنها تتحدث الاسبانية بطلاقة ، والفضل في ذلك يعود الى السنوات التي امضت خلالها اجازاتها مع عمتها بام في جنوب اسبانيا .
اخبرها الرجل الاكبر سنا بفظاظة :" انا لا انصحك بذلك سنيوريتا اذا كنت تخافين على حياتك ، فالدوق ليس في افضل مزاج له ".
غمرها الامل لمعرفتها ان خافيير هيريرا موجود هنا . جل ما عليها ان تفعله هو اقناع رئيس الخدم المتجهم الوجه بأن يسمح لها برؤيته . بعد مرور بضع دقائق كانت غرايس ماتزال واقفة على الدرج . توسلت الرجل للمرة الاخيرة فيما بدأ باب خشب السنديان الثقيل بالأنغلاق ليقفل في وجهها :" ارجوك"
اجابها رئيس الخدم بنفاذ صبر قائلا :" انا آسف ، لكن هذا مستحيل. فالدوق لا يقابل ابدا ضيوفا غير مدعوين ".
- لكن ... فقط اخبره انني هنا .... لن آخذ سوى خمس دقائق من وقته.
ارتدت صرخة غرايس اليائسة عن الباب الخشبي الصلب ، عندئذ استسلمت بدافع الاحباط الى رغبتها الصبيانية بركل الباب الامامي ، ولم تفاجأ حين بقي مقفلا بثبات . بالطبع تم بناء هذا القصر ليقاوم جيشا من الغزاة ، فكيف تستطيع امرأة شابة نحيلة البنية ، ان تخترق دفاعات هذا الحصن المنيع ؟
غمغمت غرايس متذمرة وهي تطرف بعينيها لتمنع دموعها من التساقط قائلة :" اللعنة عليك ، خافيير هيريرا !".
يبدو أنه لم يعد امامها اي خيار آخر سوى الالتفات بسيارتها لتعود من الطريق الجبلية التلي سلكتها نفسها ، لكنها لم تقو على تحمل فكرة فشلها في تحقيق مبتغاها . ان الدوق دو هيريرا موجود هنا ، في الجهة المقابلة لهذه الجدران ، ولابد ان تكون هنالك طريقة ما للوصول إليه واجباره على الاصغاء اليها .
لطالما كان والدها يغيظها قائلا إن عنادها الزائد يعوض ع الانشات القليلة التي تنقصها في الطول . مجددا حضرتها الصورة الذهنية الواضحة لوالدها الذي احاطت هالتان حمراوتان بعينيه بسبب افتقاره الى النوم ، اما جسده الذي كان قويا صلبا في ما مضى ، فأصبح هزيلا بسبب الضغوط النفسية وفقدانه الشهية . ليت بمقدورها أن تزيل خوف والدها ورعبه من فكرة ادخاله الى السجن ، عله يصبح قادرا على اخراج نفسه من اساه العميق .
توقفت الامطار عن الهطول ، وبالرغم من ان السماء ما زالت رمادية ، الا ان اشعة الشمس الباهتة كانت تحاول بشجاعة ان تبعث الدفء الى تلك المنطقة . لاحظت غرايس عبر الباحة الخارجية وجود بوابة ذات قنطرة في الحائط . قالت لنفسها على الارجح ان البوابة المصنوعة من الحديد مقفلة ، لكنها اندهشت حين تمكنت من فتحها ، فخطت الى الداخل بسرعة . بدت الحديقة رائعة التصميم ومتميزة جدا ، كما لو انها لمحة من الجنة ، ما اثار في نفسها شعورا مهدئا مسكنا . عكست سلسلة من البرك المربعة الشكل ذات المياه الصافية صور اشجار نخيل استوائية . في حين تناثر رذاذ نوافير المياه المنعش عليها مسكنا اعصابها المنهكة . اما الورود التي تطاولت بأعناقها نحو السماء ، فقد علقت على وريقاتها المخملية قطرات الماء التي بدت كحبات من اللؤلؤ .
اندفعت غرايس من دون تفكير وقطفت احدى الورود ، ثم احنت رأسها لتستنشق عبيرها بشغف . للحظات ثمينة احست ان أعباء همومها ترتفع عن كاهلها . ليتها تستطيع المكوث هنا الى الابد ، وهي تصغي الى زقزقة العصافير اللطيفة ! تمشت على طول الممرات الضيقة في الحديقة ، ناسية انه يفترض بها ان تبحث عن طريقة لأقتحام القصر . أزاحت بعيدا عن تفكيرها ذكرى بؤس والدها وحاجتها الى ايجاد الدوق دو هيريرا ، اضافة الى خشيتها من فكرة قيادة السيارة في طريق العودة نزولا على الطريق الجبلية المنحدرة الملتوية حتى تعود الى غرناطة . لم تعرف غرايس ما الذي دفع بها الى قطع حبل تأملها الصامت لبرك المياه . لم يعد هناك اي صوت .... حتى العصافير توقفت عن الغناء . ساورها احساس غريب بالوخز حل بين كتفيها ، كما تصاعد في داخلها شعور بأن احدهم يراقبها . ادارت رأسها ببطء ، وعلقت الانفاس في صدرها .
كان الرجل واقفا في ناحية بعيدة من الحديقة ، لكن طوله بدا ملحوظا جدا حتى من هذه المسافة . كان يرتدي معطفا من اللون الاخضر الغامق اللماع ، يصل الى ما تحت ركبتيه ويحتك بجزمته الجلدية . اما القبة التي تعلوها قلنسوة فجعلت مظهره اشبه بمظهر احد المحاربين من العصور الوسطى . جذب الرجل قبعته ذات الحافة العريضة فوق عينيه مغطيا وجهه ، فيما استشعرت غرايس قدرته وقوته . لفت انتباهها كلب الدوبرمان النحيل الاسود الواقف الى جانبه ، فأحست بالخوف يتمخض في اعماق معدتها . هذا الحيوان لايبدو حيوانا اليفا لطيفا ودودا . لا شك أنه كلب حراسة ، اما الرجل فلا بد أنه احد موظفي الحراسة في القصر .
فكرت ان الخيار الاكثر عقلانية هو بأن تدنو من رجل الامن هذا فتعتذر على فعلتها ، لكن مخيلتها صورت لها انه يبدو كقابض للارواح ، لذلك حلت غريزتها مكان تفكيرها المنطقي ، فاستدرات حول نفسها وفرت هاربة وهي تصرخ . ألقت نظرة سريعة من فوق كتفها ، فأتضح لها ان الرجل اطلق سراح كلبه وبدأ هذا الاخير يركض عبر الحديقة متجها نحوها . راح الدم يتخبط داخل اذني غرايس ، وهي تندفع بعنف عبر ممرات الحديقة باحثة بيأس عن مخرج للفرار . كانت الحديقة محاطة من جهات ثلاث بحائط مرتفع ، اما من الجهة الرابعة فكان الحائط اقل ارتفاعا ، فيما بدت احجار الطوب فيه قديمة ومتداعية . كاد الكلب يصل إليها ، واستطاعت ان تسمع أنفاسه الخشنة المزعجة تدنو منها شيئا فشيئا ، كما تخيلت انيابه الحادة تنغرس في لحمها . انطلقت غرايس بقوة في ممر آخر من ممرات الحديقة ، وبدأت تتسلق الحائط القديم بسرعة هائلة متولدة من يأسها .
وفرت لها احجار الطوب موطئ لقدمها ، ماسمح لها بالوصول الى حافة السور مستخدمة كل طاقاتها وقوتها . طمأنت نفسها انها باتت بمأمن الآن ، أما الكلب القابع في الأسفل فراح ينبح بصوت عنيف شرس . آه! مع القليل من الحظ يمكنها ان تتسلق الحائط فتجتازه الى الناحية الأخرى حيث الأمان . بعد ان ألقت غرايس نظرة اخيرة على الحيوان المتوحش ، علقت إحدى رجليها فوق حافة السور ثم اطلقت صرخة رعب . فخلف الحائط تنحدر الارض نحو هاوية سحيقة تبلغ بضع مئات من الاقدام . لو رمت بنفسها من فوق السور سوف تموت ، أما البديل الوحيد فهو العودة نزولا نحو الحديقة حيث ينتظرها الكلب ولعابه يسيل .
لم تعد غرايس تستطيع الحراك بعد ان شلها الخوف ، لذا حافظت على توازنها على حافة السور وراقبت الرجل يدنو منها .
- هذا يكفي لوكا !
تمشى خافيير من دون تسرع نحو الجهة البعيدة من الحديقة ، فنادى كلبه ليعود اعقابه . هناك كانت المرأة -او الفتاة كما صحح لنفسه بعد ان القى نظرة وجيزة الى الاعلى- تتعلق بحافة السور كما لو ان حياتها متعلقة بها ، وقد خلا وجهها من اية لكحة من اللون ، فبدا شاحبا وسيطرت عليه عينان هائلتان يغمرهما الخوف . لم يشعر خافيير بأقل لمحة من الشفقة عليها . فكر بعبوس ان بمقدورها ان تبقى قابعة هناك طيلة النهار ، فهو لن يهتم لأمرها . لقد سئم من اولئك الصحافيين المتطفلين الذين يقتفون تحركاته لرصد الشائعات ونقل الاخبار . اثناء تواجده في المدينة ، يقبعون في سياراتهم خارج مكتبه على امل التقاط صورة او خبر متعلق به ، او يجتمعون في حشود امام النوادي الليلية المشهورة مصممين على القبض عليه وهو برفقة احدى عشيقاته . اما اكتشافه لهذه الصحافية على اراضي قصره فهي آخر اهانة يتقبلها خلال أسوأ يوم في حياته .
سألها خافيير بنفاذ صبر :" كيف دخلت الى هنا؟ وما الذي تريدينه ؟".
لم ير معها آلة تصوير فوتوغرافي ، لعلها اسقطتها في الحديقة حين هربت من لوكا . بقيت الفتاة صامتة ، فتصلب فك خافيير . انه ليس في مزاج يسمح له بتحمل الألاعيب ، وهو يريدها ان تخرج من ارضه حالا . أمرها قائلا :" أنزلي! الكلب مربوط برسنه ولن يؤذيك ".
بالرغم من ذلك لم يلق منها جوابا ، لذا ضاقت عيناه وهو يتمعن في بشرتها الباهتة . لاحظ ان شعرها مخبأ تحت وشاح لفته حول رأسها وكتفيها فأصبح كالقلنسوة ، لكنه علم بغريزته أنها ليست اسبانية الاصل ، فكرر طلبه باللغة الانكليزية .
امتدت فترة الصمت بينهما ، ثم قالت غرايس في نهاية الامر بصوت بالكاد يتخطى الهمس :" لا أستطيع ".
خوفها من الوقوع الى الهاوية أرعبها بشدة فانسد حلقها وباتت عاجزة عن الكلام . لم تعد تقوى على الحراك ، وبالكاد تمكنت من التنفس .
- سنيوريتا ، عليك ان تنزلي .
الحدة التي ظهرت في صوت الرجل اخترقت غمامة الخوف التي غلفت ذهن غرايس ، فأدارت رأسها بحذر لتحدق به نزولا . لاحظ خافيير ان المرأة على وشك ان تصاب بالاغماء . تفحص الحائط بنظرة سريعة ، وهو يتلفظ بشتيمة قاسية . يمكنه ان يتسلق الحائط لينقذها ، لكن الخوف احساس يصعب التنبؤ بتبعاته . ان تحركت مبتعدة عنه ، فستسقط على الارجح من فوق الحافة على الصخور الناتئة في الجهة الاخرى من الحائط . كبح غضبه ، ولطف نبرة صوته قائلا :" ما من داع لأن تخافي . أنا لن اؤذيك ، كما لن يؤذيك الكلب . اقفزي الى هذه الجهة وسوف التقطك ".
بغض النظر عن مدى كرهه للصحافيين ، إلا انه لا يرغب برؤية الفتاة تهوي لتسقط ميتة . ترنحت غرايس وقد اصبحت بشرتها رمادية اللون ، فيما اغمضت عينيها وتدلى رأسها بتكاسل الى الامام . مد يديه الى الاعلى وقال لها بنبرة آمنة :" اقفزي بين ذراعي سنيوريتا . سوفتكونين بمأمن معي . ما اسمك؟"
حين هوت غرايس انزلق الوشاح عن رأسها ، فتطاير شعرها حول كتفيها كشلال حريري ذي لون بني باهت . اما صوتها فطاف نزولا نحوه ، بحيث همست كلماتها قبل ان تغوص في الظلام قائلة :" اسمي هو .... غرايس .... بيريسفورد ".
لفتها شرنقة ملؤها الدفء بعثت فيها شعورا مريحا مهدئا ، وطن تحت اذنها قرع متواصل كقرع الطبول . لكن شعورها بالامان لم يطل كثيرا ، فقد تطفلت الحقيقة على اذنها المستريح حاملة معها ذكرى تلك اللحضات الاخيرة المرعبة ، حين تعلقت بالحائط ، فواجهتها الهاوية الحادة من احدى الجهات ، ومن الجهة الاخرى شخص غريب لا وجه له يرافقه كلب متوحش شرس . فجأة انفتحت عيناها ، فعاد الخوف ليملئ قلبها . تكلمت بصوت بدا مزعجا جدا لشدة خفوته ، اذ قالت :" الى اين تأخذني ؟"
لدى سماعه كلماتها توقف الرجل عن السير ، فوضعها ارضا بغير رفق . كل ما استطاعت غرايس رؤيته لمحة من ملامح وجهه المغطى بحافة قبعته ، لكن فكه المربع اعطاها فكرة عن قوته وصلابته . احست ان الارض تدور تحت قدميها بشكل ينبئ بالخطر . غمرها شعور بالغثيان والتوت رجلاها ، فسقطت على ركبتيها . لم يقم الرجل بأية محاولة لمساعدتها على النهوض ، بل انحنى ببساطة فوقها فيما عي راكعة على العشب الرطب المبلل ، فأحست ان تفحصه الصامت لها بدء يفقدها اعصابها . اما الكلب فجلس عند قدميه . اطلقت غرايس تنهيدة ارتياح خافتة عندما لاحظت ان الرسن مربوط بالطوق الموجود حول عنق الكلب.
قالت وهي غير قادرة على منع الرجفة من صوتها :" لا اصدق أنك اطلقت كلبك في أثري ".
رد الرجل بخشونة قائلا :" انا لا احب المتطفلين على أملاك الغير ".
جاء صوته رزينا مهيبا ومنخفض النبرة ، لكنه تحدث الانكليزية بطلاقة بالرغم من لكنته القوية البادية بوضوح . أمالت غرايس راسها فنظرت أليه بفضول ، وقد ازعجتها وقفته المتعجرفة . بالنظى الى مظهره افترضت أنه أحد رجال الحراسة في هذه الملكية . لكن الرجل راح يحدق بها نزولا كما لو انه يمتلك المكان .
زمجر قائلا :" لماذا جئت إلى هنا ؟"
- جئت لمقابلة الدوق دو هيريرا .
احست غرايس بشكل ما ان وضعها وهي راكعة أمامه ليس لصالحها ، لذا استنشقت نفسا عميقا واجبرت نفسها على النهوض على قدميها . أما الرجل فلم يعرض اي مساعدة او مساندة لها ، بل راقبها بصمت قاتل .
- لأي سبب؟
صرت غرايس على اسنانها بحدة لدى سماعها سؤاله ، ثم رفعت ذقنها وحدقت به ؛ متمنية لو ان بمقدورها رؤية وجهه .
- لأسباب شخصية .
توقفت عن كلامها وقد انجذبت عيناها نحو ذراعيه القويتين وصدره العريض . لا شك ان هذا الرجل أنقذها من سقوط كان لينتج عنه تكسر عظامها . تمتمت بصوت ابح :" أشكرك على التقاطي . اقدر بأن هذه الحديقة خاصة . لكنني جئت لمقابلة ....".
تشتت حديثها بشكل بائس ، فيما تذكرت محاولتها الفاشلة للحصول على مقابلة مع الدوق دو هيريرا المراوغ .
اعلمها الرجل بنبرة متعالية :" الدوق لا يستقبل زوارا غير مدعوين ".
بدأ خوف غرايس يتلاشى الآن واصبحت قدماها ثابتتين على الارض ، فتذكرت السبب الذي دفعها الى أقتحام الحديقة أصلا ؛ كانت مصممة على إيجاد طريقة للدخول إلى القصر ، ومع قليل من الحظ قد يساعدها هذا الرجل الريفي الفظ على تحقيق مبتغاها .
- انا لست زائرة غير مدعوة. لدي دعوة .
قالت غرايس ذلك كاذبة ، فأنطلق لسانها فورا لترطيب شفتيها اللتين جفتا فجأة . لم يبدر الرجل اي جواب لكن لغة جسده دلت ببساطة على عدم تصديقه ، ماتسبب في زيادة انزعاجها . قالت وهي ترفع عينيها الزرقاوين الصافيتين نحوه مبتسمة بتردد :" نعم . وصلت باكرا ، وقررت استكشاف اراضي الملكية عوضا عن الانتظار في السيارة . انا آسفة . اعتقد ان الدوق قد يكون مستعدا لمقابلتي الآن . لعلك تستطيع مرافقتي اليه؟"
استمر تدقيق الرجل وتفحصه الصامت لغرايس لفترة طويلة . اخيرا اخترق الهواء الساكن فجأة ، فقفزت غرايس مجفلة حين سألها :" هل أنت واثقة من رغبتك بدخول قصر الاسد ، آنسة بيريسفورد؟"
أهذا تلميح خفيف بالتهديد في صوته؟ لعنت مخيلتها المبالغة في تصوراتها ، ثم ردت بحدة ورشاقة :" بالطبع . سأتبعك ".
- تفضلي!
هذه المرة لم يكن هنالك أي شك في وجود النبرة المهينة في صوته ، لكن الرجل لم يضف اي شيء على كلامه ، بل استدار على عقبيه ببساطة وبدأ يسير بخطوات كبيرة عبر الحديقة ، فيما هرول الكلب إلى جانبه . لم يزعج نفسه ليستدير حتى يتحقق إن كانت تتبعه أم لا ، لذلك اضطرت إلى الهرولة حتى تلحق به.
مع دخولهما الى القصر من باب جانبي كانت غرايس تشعر بالحرارة وانقطاع الانفاس . لكنها تبعت دليلها صعودا على درج حجري شاهق شديد الانحدار . شعرت بالارتياح لأنها لم تر أي اثر لرئيس الخدم الفضولي الذي كان قد رفض التماساتها وتوسلاتها حتى تقابل الدوق قبل قليل . فكرت انها وصلت الآن الى الداخل ، الى عرين الاسد . حاربت شعورها بالهلع عندما خطت الى غرفة فسيحة امتلأت جدرانها بالكتب . خمنت غرايس ان هذه الغرفة هي غرفة مكتبة الدوق دو هيريرا . تسلل الخوف الى عظامها حين تبعها الرجل الى داخل الغرفة ، وارتجف قلبها عندما اغلق خلفه وسمعت طقطقة القفل الخافتة . أخرج خافيير هاتفه النقال من جيب معطفه ، فتمتم بضع كلمات عبره ، لكن صوته كان خافته جدا لم تفهم ماقاله .
تعمدت غرايس النظر الى ساعة يدها قائلة :" هل سيصل الدوق خلال وقت قريب؟"
رد خافيير بصوت حريري قائلا :" أعدك أنك لن تضطري الى الانتظار مطولا ، آنسة بيريسفورد" .
مجددا التقطت شيئا من السخرية في صوته فأزدادت خشيتها منه . راقبته وهو يفك ازرار معطفه ، ثم يهز كتفيه ليسقط عنهما ، فأنجذبت عيناها إلى بنيته الحسدية الرائعة . كان يرتدي سروالا اسود ضيقا ، فيما كشفت قميصه البيضاء المفتوحة عند العنق عن عنقه الطويل الاسمر اللون . أما في قدميه فقد انتعل جزمة جلدية طويلة الساق . شكله هذا ذكر غرايس بشكل بارون من العصور الوسطى .
- سوف تصل الشرطة الى هنا خلال وقت قصير .
أبلغها خافيير ذلك بابتسامة خالية من اي دفء شقت مساحات وجهه الصلب .
-الشرطة ؟
احست غرايس بالصدمة الى درجة انها فقدت لوهلة القدرة على ايجاد الكلمات المناسبة . أقرت ان ردة فعلها الجسدية تجاه هذا الشخص الغريب الواثق من نفسه امر صعقها الى درجة الغباء . فكرت بحذر ان الوسامة بالكاد تكون وصفا ملائما له . بدا وجهه منحوتا الى حد الكمال مع انه متعحرف فظ الى حد بعيد ، كما ان عظمتي خديه بدتا حادتين . كذلك تممت بشرته الذهبية كلون الزيتون بحاجبين اسودين وشعر أسود كجناحي الغراب . أما عيناه السوداوان الكهرمانيتان فأتقدتا بالنار وهما ترسمان دربا وهميا فوق كل انش من جسدها . احست كما لو ان الرجل يقوم بتفحصها بعناية تحت المجهر ، فأثار هذا الامر غضبها، ودفع باللون الاحمر نحو وجنتيها بشدة . تكلمت بشكل لاذع ، محاولة إخفاء شعورها بالاحراج بسبب ردة فعل جسدها الغدار ، فقالت :" انت لست البستاني. أليس كذلك؟ افترضت انك .... لا تقل لي إنك انت الدوق دو هيريرا ؟"
رفع خافيير أحد حاجبيه باستمتاع ساخر ، وقال: "انت يا آنسة بيريسفورد كاذبة ، كما انك سارقة".
توفف لبرهة ثم تمتم مضيفا :" لابد ان تلك العادة تجري في دماء عائلتكم".
ادركت غرايس مرتعبة ان الرجل هو الدوق نفسه وانه عرف من تكون .
استنشقت نفسا عميقا مكابدة العناء حتى تجد الكلمات المناسبة لتفسير زيارتها هذه . لكن بدا لها كأن دماغها تداعى ، ولم تقو على التوقف عن التحديق به . وجهه ذو الزوايا الحادة ، وانحناءة رأسه المتعجرفة ، فضلا عن عينيه الغريبتين بلونهما الذهبي، كلها عوامل اجتمعت لتترك تأثيرا مخدرا عليها .
قالت متلعثمة :" أقر أنني ... تفوهت بكذبة صغيرة، لكنني لست بسارقة ".
احمرت وجنتاها خجلا حين تذكرت القصة التي لفقتها حيال حصولها على موعد للقاء الدوق. سيصعب عليها اقناع خافيير هيريرا بانها جديرة بالثقة .
- احقا؟ اذا من منحك الاذن بالسرقة من حديقتي؟
تمشى خافيير عبر الغرفة ثم توقف على مقربة شديدة منها، حتى ان احاسيسها التقطت النكهة الحادة لعطره اللاذع . وقفت غرايس مبهورة مخطوفة الانفاس فيما قام بتمرير احدى أنامله بدهاء، نزولا من فكها وصولا الى اسفل عنقها. انحبست انفاس غرايس، فأحست بدوار بسبب افتقارها للأوكسجين . حدقت به عاجزة عن الكلام، ثم شهقت عندما انتزع فجأة الوردة المحشورة في عروة زر الفستان.
همست :"انها مجرد وردة واحدة ".
اما خافيير فتمتم متهكما :" بالطبع! ماقيمة سرقة وردة واحدة في حين ان والدك سلبني مسبقا ملايين الجنيهات؟"
اطلقت غرايس انينا ينم عن اليأس حين صدمها مجددا هول الجريمة التي ارتكبها والدها، فقالت :" آه يا إلهي! أدرك أن الامر يبدو سيئا .."
- لا يبدو الامر سيئا فقط آنسة بيريسفورد، بل يبدو مريعا .
بدا خافيير كالأسد الذي ينتظر الانقضاض على فريسته، فيما بدت غرايس كالفريسة التي دفعها غباؤها الى الدنو كثيرا منه . تمتمت :" آسفة".
ابتلعت الدموع التي سدت حلقها، فيما تذكرت مدى ضخامة المبلغ الذي اختلسه انغوس. إنها ثلاثة ملايين جنيه استرلينينا قام بتحويلها خلال مدة من الزمن الى حسابات مزيفة . ترافق انزلاق والد غرايس الى الاحباط والاسى العميق مع اعتقاده المهووس بأن ضربة حظ واحدة يحظى بها على طاولة الروليت سوف تمكنه من تغطية اموال الدائنين ودفع الاموال التي اقترضها من المصرف .
استهلت غرايس كلامها قائلة :" ادرك ان والدي ارتكب خطأ شنيعا لكن هنالك اسبابا دفعته الى ذلك"
تشدق الدوق دي هيريرا قائلا :" انا واثق ان لديه اسباب، وان بامكانه اصلاع القاضي عليها ".
رن جرس الهاتف الموضوع على مكتب خافيير فالتقط السماعة واصغى للحظة، ثم اعادها الى مكانها قبل ان يوجه لغرايس ابتسامة قاسية اخرى.
ادركت غرابس فطريا بان ذاك الاتصال اعلمه بوصول الشرطة ، فغمرها الهلع. هذه هي فرصتها الوحيدة للدفاع عن قضية والدها ، وهي لن تستسلم من دون مقاومة .
قال خافيير ببرود :" أدهشني لقاؤك والتعرف بك، آنسة بيريسفورد . لكنني أخشى انه حان اوان رحيلك"
- ارجوك! يجدر بك ان تصغي الي. ان والدي ....
- يستحق كل ما يحصل معه.
كان خافيير فد وصل الى الباب، ولغة جسده تحذرها من ان صبره وصل الى حده الاقصى ، لكن غرايس يائسة جدا .
- انه مريض ، مريض عقليا. لم يكن يدري ما يفعله.
اجابها خافيير :" آه! ما بالك؟ انغوس بيريسفورد استغل مكانته كمدير للمصرف ، فأخذ يحول الاموال الى حسابات زائفة خلال الثمانية عشر شهرا الاخيرة ، وهو يدرك تماما ما يفعله "
أطبقت يد خافيير على مقبض الباب، لكن قبل ان يتمكن من فتحه اندفعت غرايس بقوة فاستندت الى الباب الخشبي. تضرعت قائلة :" لم يتمكن والدي من ايجاد طريقة اخرى. ارجوك .... امنحني خمس دقائق من وقتك، ودعني اشرح لك الاسباب التي دفعته لارتكاب فعلته هذه ".
اعتقدت غرايس للحظة كادت توقف قلبها انه سوف يجرها بالقوة بعيدا عن الباب؛ بعد ان اطبق يده حول معصمها بقبضة مؤلمة ، لكن فجأة سمعت طرقة حادة من الجانب الآخر للباب.
تكلم خافيير بأيجاز مستخدما لغته الام ، وهو غير مدرك ان بمقدروه غرايس ان تفهم سؤاله وجواب خادمه الذي ابلغه وصول الشرطة وبأنهم ينتظرون في البهو .
لقد حذرها المحامي بأن والدها سوف يواجه حكما بالسجن لمدة طويلة، وما من شيء يمكن انقاذه الآن . فجأة احست بالارتخاء في عظامها ، أما الدموع التي راحت تتجمع في عينيها منذرة بالانهمار منذ ارتعابها السابق في الحديقة ، فبدأت تنهمر بصمت نزولا على وجنتيها
- خدعة أم حقيقة؟
حدق خافيير بالجدولين الصغيرين اللذين تدفقا نزولا على وجنتي غرايس ، وفكر بازدراء ان النساء غالبا ما ينجحن في تحقيق مآربهن عندما يلجأن الى ذرف الدموع . تساءل كيف يستطيع الجنس الآخر ان ينتقل الى البكاء والدموع في الوقت المناسب . ما زال هذا الامر يدهشه حقا .
بلغ خافيير الخامسة والثلاثين من عمره ، وهو يعيش حياته بنمط سريع جدا بكل ما تحمل الكلمة من معاني . إنه يهوى السيارات السريعة والعلاقات الغرامية الاكثر سرعة. معظم علاقاته لم تتجاوز مرحلة الانطلاق ، فأستمرت لمدة ليلة او اثنتين . تعرف من خلال هذه العلاقات على كل اساليب النساء ، وشاهد كل انواع الحيل التي تستخدمها المرأة في محاولتها لجعل الامور تسير على هواها ، الا ان البكاء هو أسوأ ما ينفره من المرأة من بين جميع اساليبها الاخرى. لماذا اذا جعله منظر دموع هذه المرأة يشعر كما لو ان احدهم طعنه بسكين في احشائه؟ ثمة شيء في عينيها الزرقاوين الغامقتين الطافحتين بالدموع يؤثر به . احس برغبة في ان يجذبها الى صدره فيمرر انامله في شعرها البني الحريري ... يجدر به ان يطدرها على الفور. يجدر به ان يسلمها الى الشرطة ويقاضيها بتهمة التعدي على املاكه من دون اذن. لماذا تراه يتردد في ذلك؟ منذ لحظة معرفته بهوية هذه المرأة اخذت مشاعره تتأرجح بين الغضب الشديد واحساس اخر ؛ انها رغبة غريزية نوعا ما، ولا شك انها المسؤولة عن عدم قدرته على ابعاد عينيه عنها.
لطالما فضل خافيير النساء الطويلات القامة الانيقات المظهر اللواتي يتمتعن بأرجل طويلة وقامات رشيقة، اما غرايس بيريسفورد فهي قصيرة القامة نحيلة. انها امرأة غير مميزة بيشرتها الباهتة الفاتحة اللون وشعرها البني الذي تتخلله مشحات من اللون الذهبي الفاتح . غرايس ليست من النوع الذي يلفت النظر ، ومع ذلك فهنالك شيء ما في وجهها ... شيء من الصفاء والرصانة . لعل تلك الرسالة المخفية في عينيها الزرقاوين المدهشتين او الابتسامة المراوغة التي عرضتها أمامه قبل قليل هما المسؤولتان عن الالم الذي ينتابه في احشائه؟
قال ببرود وهو يجبر نفسه على التمشي بتكاسل وغير اكتراث نحو النافذة :" أمامك دقيقتان! مع ذلك يجدر بي ان احذرك بأن لدي فكرة جيدة عن الاسباب المؤدية الى مشاكل والدك المالية، ولا اعتبرها مبررا لاستغلالهالتقة التي وضعتها فيه".
قالت غرايس بألحاح :" ألا تعلم أنه مصاب بالأكتئاب المرضي، وانه لا يستطيع السيطرة على نفسه؟ كما انه ضحية لمجال المراهنة المتوفر عبر شبكة الإنترنت".
- إن قلبي يدمي من شدة الالم .
سخرية خافيير استفزت اعصاب غرايس ، فمشت عبر الغرفة لتقف امامه بحزم وصلابة . حين التوى حاجبا خافيير دلالة على عدم تصديقه قالت بشراسة :" والدي رجل طيب. إنه رجل محترم. منذ بضع سنوات قام ببعض الاستثمارات ، لكنه لسوء الحظ خسر الكثير من الاموال ".
رد خافيير بنبرة لاذعة :" لست افهم لماذا يجدر بي ان اعاني بسبب تهوره".
- كان يشعر باليأس . والدتي كانت مريضة جدا ، وكان هو مستعدا لفعل اي شيء ...اي شيء ... من اجل مساعدتها .
لم تتحرك تعابير وجه خافيير الدالة على لا مبالاته ، فمررت غرايس احدى يديها فوق وجهها من فرط يأسها. انها ليست قادرة على الوصول إليه ليتفهمها ، كما ان الوقت بدأ ينفد منها .
تابعت كلامها متلعثمة فقالت :" بدت له المراهنات السبيل الوحيد للخروج من مأزقه. كسب مرة او اثنتين، فأعتقد ان الحظ سيظل حليفه. لكنه عوضا عن ذلك بدأ يسجل على نفسه ديونا هائلة ".
تابعت بصوت خافت :" لم يعد لديه امل بان يسددها. أما بعد وفاة والدتي ، فغمره الالم اليأس الشديدين. الشيء الوحيد القيم الذي تبقى لدينا هو منزلنا الذي كان ملكا لوالدتي فأصبح ملكه بعد وفاتها. هدده الدائنون بالاستيلاء على منزل "ليتل كوت" فأراد بيأس التمسك به ... لأجلي''
قالت ذلك بصوت مخنوق ، محاربة دموعها التي اوشكت على ان تنهمر. تابعت قائلة :" عندئذ فعل انغوس مافعله . اخذ الاموال لأنه رغب بالاحتفاظ بالمنزل الذي احبه".
تدفقت الدموع من عيني غرايس ، ففركت عينيها بظاهر يدها. لم ترغب البكاء، لا سيما امام هذا الرجل الذي بدا كأن قلبه منحوت من الصخر الصلب.
علق خافيير بنبرة تدل على الملل :" إنها قصة مؤثرة ولا شك أنها تتضمن شذرات من الحقيقة . انا اصدق ان انغوس سرق الاموال من اجلك ، فأنت تتمتعين بذوق مرهف آنسة بيريسفورد "
طالبته غرايس وهي تشعر بالحنق :" كيف يمكنك ان تعرف ذوقي؟"
رماها خافيير بنظرة ازدراء وقال :" من الطبيعي ان اطلب تقريرا مفصلا عنكما ، لذا انا اعرف كل ما يجب ان اعرفه عنك . يبدو انك تحبين المقتنيات الثمينة"
اعلمها خافيير بذلك ببرود ، وتابع :" انت تقتنين كلبين اصيلين ، تأخذيهما الى صالونات التمشيط والتزيين الخاصة بهما ".
فتحت غرايس فمها لتعارضه ، لكنه تابع قائلا :" كما انك تابعت دراستك في جامعة متميزة ، من دون ان نذكر تلك الشقة الفخمة التي كنت تقطنينها اثناء وجودك في الجامعة "
ردت غرايس بحزم :" دفعت ايجار الشقة من اموال بوليصة تامين تركها لي جداي ...."
راح الغضب يفور في داخلها كالحمم البركانية . لكنها لو اطلقت هذا الغضب الكامن في داخلها ، فذلك سيفسد كل فرصها السانحة لمساعدة والدها . لذا تكلمت بهدوء قائلة :" ... وانا بالفعل عملت جاهدة لأجل الحصول على شهادتي ".
- في مجال تاريخ الفن؟ انا واثق انها شهادة مفيدة جدا لك .
الاستهزاء البادي في كلمات خافيير ، جعل غرايس تتوق الى صفعه ، لكنها ردت ببرود قائلة :" بما انك لا تعرف الكثير عني ، انا واثقة انك عرفت انني ادير متجري الخاص بالتحف الاثرية القديمة ".
رد خافيير :" اعرف انك تحبين لعب دور البائعة في مؤسستك الصغيرة الخاصة في برايتون ، لكن متجرك "ركن الكنوز" بالكاد يعتبر عملا ناجحا . اليس كذلك؟"
عبست غرايس ، فتابع هازئا منها :" آه ، بربك! أنت بالكاد تنتجين ما يكفي من المال ليغطي رأسيكما انت ووالدك ".
احمرت وجنتاها لدى سماعها ملاحظات خافيير حيال عملها الحديث العهد ، فتمتمت قائلة :" صحيح ان ارباحي لم تصل الى المستوى الذي املته ، لكن بناء سمعة جيدة في مجال العمل بالتحف الفنية يتطلب بعض الوقت ".
قبل ان تفتح غرايس متجرها الخاص احبت عملها كموظفة مبتدئة في مجال الفهرسة والتوثيق لدى دار مرموقة للبيع بالمزاد العلني . لكن حياتها في لندن اصطدمت بعقبة مفاجئة كادت تحطمها ، وذلك حين انهت خطوبتها بريتشارد كونيتين . خيانة ريتشارد جعلتها محطمة الفؤاد ، فعادت الى برايتون حيث افتتحت "ركن الكنوز" بمساعدة والدها . لكن الاعمال سارت ببطء خلال العام الاول ، ولم يبقى لديها سوى القليل من المال بعد دفع الفواتير المتوجبة عليها ، لذا سمحت لوالدها بمساعدتها ماليا في بعض المناسبات .
لطالما استمتعت غرايس بنمط حياة مريح جدا ، لكنها احست بشعور سيء عندما ادركت ان والدها دفع ثمن هذا الرخاء بواسطة الاموال التي سرقها من المصرف . احست بالسقم من شدة الخجل والحرج ، فرفعت عينيها نحو خافيير الذي راح يراقبها من دون ان تظهر اية ملامح على وجهه . بدت عيناه الذهبيتان محجوبتين برموشه الطويلة ، فلم تظهرا اي لمحة عما يجول في خاطره . تكلمت بصوت ابح قائلة :" يجدر بي ان اشاركه في تحمل اللوم على هذه الورطة المريعة التي وقع بها . والدي اختلس من المصرف ، ليس فقط لاجل علاج والدتي ، بل لأنه لم يرغب بحرماني من نمط العيش الذي كنت معتادة عليه . لا يمكنك ان تتصور كم يجعلني هذا الامر اشعر بالسوء ".
تشدق خافيير بسخرية :" اتصور انك منزعجة جدا لانه يتوجب عليك تغيير نمط حياتك . لابد ان فقدانك للمصدر الاساسي لمدخولك امر مزعج جدا وغير مريح بالنسبة لك . لكنني اخشى ان مصرفي
-وبفضل خفة يدي والدك وطولهما- لم يعد مستعدا لتغطية نفقات مصروفك المفرط ".
تملك الغضب الشديد غرايس ، وظهرت نبرة حادة في صوتها حين قالت :" أتشير الى انني كنت اعلم بمايجري؟"
وجه إليها نظرة باردة قائلا لها :" هل تتوقعين مني ان اصدق بأنك ماكنت تعلمين ؟ انا لست غبيا آنسة بيريسفورد . يبدو بوضوح انك تحركين والدك كما تشائين بمجرد حركة من اصبعك . أما الان ، ومع انهيار عالمك الصغير المشبع بالدلال والرفاهية ، فقد اصابك الهلع ".
اكمل بوحشية :" ما الذي املت بتحقيقه عبر مجيئك الى هنا؟ اتتوقعين مني التغاضي عن اختلاس مبلغ ضخم كهذا ؟ قد تجدي دموعك نفعا حين تستخدميها مع والدك ، لكنها لا تؤثر بي مطلقا ".
اضاف بخشونة فيما توجهت نظراته نحو الساعة المعلقة على الحائط :" انتهت الدقيقتان المخصصتان لك ".
خاطبته غرايس بهلع قائلة :" جئت لأعرض عليك تسديد الاموال التي اخذها والدي منك . وافقت على بيع المتجر ومنزل "ليتل كوت" . اذا جمعت المبلغ الذي سأحصل عليه مع الحصص التي تركتها لي والدتي ، يمكنني ان اجمع مليوني جنيه".
سألها خافيير ببرود :" وماذا عن المليون الاخر ؟"
- انا اتحدث الاسبانية بطلاقة . ربما ... يمكنني العمل في المصرف الى ان يتم تسديد الدين ... من دون راتب بالطبع .
اضافت غرايس كلماتها الاخيرة بتسرع بعد ان رمقها خافيير بنظرة استهزاء . ما لبث ان صرح بخشونة :" يا الهي ! هل تظنين انني قد اسمح لك بالبقاء على مقربة من مصرفي ؟ يكفيني فرد واحد من ال بيريسفورد . ثم .... كيف يمكنك ان تعيشي من دون اي مدخول ؟ تسديد مبلغ مليون جنيه يتطلب اعواما واعواما ، حتى لو حسمنا الفائدة المتراكمة . ان الفكرة سخيفة ومضحكة . لا شيء يمكن ان يثير اهتمامي ولو بشكل ضئيل ".
انزلقت نظراته سريعا فوق جسدها كأنه يصرفها من امامه . بالرغم من كل شيء ، لم تقو غرايس على منع ارتعادة من العبور خلال جسدها . ما خطبها؟ كيف عساها سمحت لهذا الرجل من بين كل الرجال ان يؤثر فيها الى هذا الحد؟ انها بالكاد تستطيع ان تفكر بصواب .
فكرت غرايس انه يجدر بها ان تركز على انقاذ والدها من الحكم الذي سيودي به الى السجن . لا شيء اخر يهمها ، لا سيما ذاك الاحساس الغريب المشابه لرفرفة الفراشات في معدتها ، والذي انتابها عندما تحرك خافيير عبر الغرفة سائرا نحوها .
همست قائلة :" والدي سينهار لو تم ارساله الى السجن . جعلته وفاة والدتي رجلا محبطا مكسور الفؤاد ، ولا اظن انه يستطيع تحمل المزيد من الصدمات . انا اخشى بأنه قد ينهي حياته بيده ، لذا اتوسل اليك كي تظهر اللين والتساهل معه ".
ارتعش فم غرايس فعضت على شفتها السفلى بقوة. الدوق دو هيريرا قال لها للتو ان الدموع لا تؤثر فيه ، لذا فهي بحاجة لأن تكون هادئة ومتحكمة بمشاعرها. تابعت تقول :" سوف افعل اي شيء تطلبه ، اذا وافقت على عدم ملاحقته قانونيا ".
ارتفع حاجبا خافيير وقد بدا استمتاعه واضحا . فسألها :" اي شيء؟ يجدر بي ان افهم انك تعرضين خدماتك؟ كم ليلة من الشغف يمكنها ان تعوضني عن المليون جنيه برأيك؟"
سمح خافيير لعينيه بأن تتأملا جسدها ببطء ، ملاحظا وجنتيها القرمزيتين ، كما لاحظ ارتفاع صدرها وهبوطه بسبب الهلع .
ردت غرايس بكلمات لاذعة :" لم اعن ... ذلك! بل املت ان نتوصل الى اتفاق من نوع ما .... "
قطعت كلامها وقد ادركت بمرارة انها لا تملك اي شيء ثمين لتعرضه على دوق مليونير بأستثناء جسدها . لكن كيف عساه تجرأ على الاعتقاد بأنها تعرض عليه ذلك الامر؟ اغمضت عينيها بضعف حين تقدم خافيير ليقف على مقربة منها . اقتحمت احاسيسها رائحة خافيير وتسللت الى انفها رائحة عطر مسكي خفيف . بدأت الدماء تتدفق بقوة الى في عروقها فترنحت مائلة نحو خافيير بأرتباك واضح .
التمعت عيناه الذهبيتان فيما اقترح بصوت حريري :" لعلك لن تجدي معاناة في مشاركتي السرير ، فما اراه في عينيك المعبرتين بدعوتي الى الاعتقاد بأنك متلهفة لذلك ".
استنشقت غرايس الهواء بحدة ، ثم همست وهي تتلوى خجلا :" انت مخطئ في ذلك "
تراجعت الى الوراء خطوة ، لكن خافيير الامساك بذقنها ، ثم رفع وجهها بحيث لم يعد لديها اي خيار سوى ملاقاة نظراته .
- انا لست اعمى ، انسة بيريسفورد. يمكنني ان ارى كيف يسود لون عينيك حين تنظرين الي ، كما ارى ارتعاشة جسمك.
قال ذلك متمتما وقد تبدلت نبرة صوته فجأة فصارت مخملية ناعمة ، ثم تابع :" كلانا مدركان لهذا الانجذاب المتبادل بيننا و .... دعينا نواجه الامر ،فهناك اساليب اسوأ من هذه لكسب المعيشة".
يا الهي! هل يتكلم بجدية ؟ اتراه حقا يقترح بأن تصبح هي عشيقته؟ احست بأناملها تستحكها حتى تصفع تلك التكشيرة المتعجرفة البادية على وجه خافيير ، فأنجرفت تقول بكلمات لاذعة :" هذا خيار لن آخذه بعين الاعتبار . افضل ان اموت اولا".
اطلقت قهقهة خافيير الخافتة اللهب في اعصاب غرايس . ثم قال ساخرا :" اذا ، من حسن حظنا معا انني لا اميل الى العذاري اللواتي يقدمن انفسهن كأضاحي ".
طرفت غرايس بعينيها ، وغمر اللون الاحمر وجنتيها. كيف عرف انها عذراء؟ هل استطاع استنتاج ذلك؟ هل طبعت جملة " لم تلمس قط" كالوشم فوق جبهتها؟
اعلمها خافيير بتعجرف :" انا لم اجر المقايضات ابدا من قبل بهدف الحصول على هذه الخدمات ، ولا نية لي مطلقا بأن ابدا الان "
استقرت يده بثقل على كتف غرايس ، فأدارها بحزم نحو الباب ، قائلا :" لقد هدرت وقتي بكا فيه الكفاية ، لذا اقترح ان تعودي الى منزلك وتوظفي خدمات محام جيد . انغوس سيكون بحاجة اليه".
منطق غرايس حذرها بءن الصمت هو خيارها الافضل للحفاظ على عزة نفسها . لكنها احست ان عزة نفسها ممزقة ، فهي لم تشعر بغضب مماثل ابدا طيلة حياتها. قذفت الكلمات نحو خافيير كتيار غاضب ، لانها فشلت بتغطية خيبة املها لفشلها في مساعدة والدها ، فقالت له :" انت عديم القلب تماما . اعلم ان انغوس اخطأ بفعلته ، وهو يعرف هذا ايضا . لو كان بمقدورك ان تراه ، لأدركت ان الشعور بالذنب دمره . لكنه اخذ هذه الاموال لأنه لم يستطع رؤية اي سبيل اخر "
ارتعش صوت غرايس بسبب الاحاسيس المريرة ، فيما تذكرت الاسابيع الاخيرة الصعبة من حياة والدها ، وتذكرت حزن والدها الشديد لأنه لم يتمكن من انقاذ محبوبته سوزان .
عبرت تعابير وجه خافيير الضجرة عن قلة اهتمامه ، فأستسلمت غرايس وقالت بمرارة :" انت لا تملك اي فكرة عن الحياة الواقعية . اليس كذلك؟ فءنت ولدت وريثا لثروة هائلة لايمكن تصورها ، وتقبع هنا في قصرك حيث تلعب دور الحاكم المسيطر على الاخرين . اتعلم شيئا ؟ انا اشعر بالأسف عليك فأنا لا اظن انك اختبرت الحب او ان احدهم احبك يوما".
اقترب حاجبا خافيير من بعضهما في عبوس ، لكنه فتح الباب ودفع غرايس نحو الرواق . مشفت ابتسامة واسعة عن اسنان بالغة البياض . قال لها :" ربما انت على صواب . لكن دعيني اؤكد لك ان هذا النوع من العلاقات مع الناس يناسبني تماما . وداعا انسة بيريسفورد".
-مهلا!
كاد الباب ينغلق ، فحشرت غرايس قدمها بسرعة في الفجوة وهي تدرك تماما كم يسهل على خافيير ان يسحق عظامها . سألته بيأس :" هل تريدني ان اتوسل؟ اهذا هو الامر؟ سوف افعل ذلك ان كان هذا الامر ينقذ والدي "
رمت عزة نفسها جانبا، وسقطت على ركبتيها فيما قالت :" لن اسمح بأن يدخل والدي السجن . لابد ان تكون هنالك طريقة ما يمكنني ان أفيدك بها ... سوف اطهو ، انظف ... "
ألقت نظرة على طول الرواق نحو الارض الحجرية التي بدت كأنها تمتد لأميال ، وتابعت :" سوف انظف ارضيات منزلك . سوف افعل اي شيء ... ما دام لا يخرج عن حدود الاخلاق ".
عضت غرايس بقوة على شفتها السفلى الى ان احست بطعم الدم في فمها وهي تحدق بخافيير راجية اياه ان يمنحها فرصة . تصلب فك خافيير واخذت عيناه الذهبيتان تخترقان جلدها وتحرقانه، فيما سمح لنظراته ان تمر بشكل متراخ فوق فستانها الصيفي الاصفر . بدت له روح البراءة التي تتمتع بها مثيرة للاهتمام ، إلا ان المنطق كان يقول له بأن ذلك لا يمكن ان يكون حقيقيا بالفعل . بحسب التقارير التي وصلته عنها ، علم خافيير ان غرايس حظيت بنصيب لا بأس به من العلاقات العاطفية، وانها كانت على علاقة مع سمسار ناجح في مجال التأمين يدعى ريتشارد كونيتين . انه يكبرها بعدة سنوات ، ويتمتع بسمعة في ارجاء لندن تقول انه زير نساء . يقول التقرير ان غرايس كانت مخطوبة الى كونيتين لفترة وجيزة ، ولابد إنهما كانا عشيقين . لماذا عساها اذا تزعج نفسها بأدعاء الخجل كالعذاري؟ ولماذا بحق الجحيم لم يتخلص منها بكل بساطة؟
استفهم خافيير بخشونة :" لماذا جئت الي؟ لما لا تعرضين ...."
تمهل بالكلام سامحا لعينيه بالتباطؤ وهما تتأملانها ، ثم تابع :" ... خدماتك على رجل ثري آخر ؟"
اجابت غرايس ببلادة ذهن وفظاظة :" لقد نفدت مني الخيارات . سينيور هيريرا ، انا جدية بخصوص تسديد جميع ما أخذه انغوس من اموال .... كل قرش منها "
اضافت بشراسة عندما رأت ان خافيير ليس متأثرا بكلامها :" لا اعرف كيف سأفعل ذلك بعد ، لكنني سوف اسدد ديون والدي بشكل ما . جل ما اطلبه هو ان تمنحني الوقت، وان تعطيني موافقتك بتسوية الموضوع خارج اطار المحكمة ".
غمر خافيير شهور بالانزعاج لسبب مت لدى مشاهدته منظر غرايس راكعة امامه فأطلق شتيمة ثم اندفع مبتعدا عنها . صوت المنطق يقول له ان غرايس فاسقة انانية اجبرت والدها على استغلال موقعه في المصرف لتحافظ على نمط حياتها المبذر المسرف . لكنها تبدو لطيفة حقا حين تنظر اليه بهاتين العينين الواسعتين ذات اللون الياقوتي الازرق . من جهة اخرى، سلم خافيير بأن غرايس تتمتع بروح مميزة . ولابد انها تحب والدها حبا جما ، كي تأتي الى هنا للدفاع عن قضيته . انها لا تستحق احترامه او تعاطفه ، لكن ما ازعجه هو احساسه بهذين الشعورين. فجأة تسللت الى ذهنه فكرة ، انه ليس بحاجة الى طباخة او الى عاملة تنظيف ، لكنه بحاجة الى زوجة . التوى فمه بأبتسامة ساخرة ما ان تذكر الشرط الذي فرضته وصية جده عليه.
تكلم خافيير ببرود وهو مدرك للاحساس الغريب الذي يعتمل في صدره ، فيما راقبها وهي تنهض على قدميها مرتعشة . قال لها :" انهضي آنسة بيريسفورد. أتقولين إنك مستعدة للعمل لأجلي مقابل اسقاطي لكل الاجراءات القانونية التي اتخذتها ضد والدك؟"
بدأ الامل يتسلل الى صدر غرايس فيما تعثرت وهي تتوجه اليه . طمأنته مؤكدة بحماس :" نعم. قلت لك انني سوف افعل اي شي ".
ساد بينهما صمت يشوبه التوتر ، الى ان تكلم خافيير اخيرا فقال :" في تلك الحالة افترض انك لا تمانعين في ان تصبحي زوجتي؟"
تصريح خافيير الخالي من المشاعر قلب عالم غرايس على عقب. جذبت الهواء بصعوبة الى داخل رئتيها ، ثم تمتمت بصوت كئيب :" أنت تمزح. اليس كذلك؟"
بدأت الدموع تخز عينيها وهي تتوقع ان تسمع ضحكته الساخرة . لكن كلماته التالية جعلتها ترفع رأسها . أعلمها خافيير بأيجاز :" هذه ليست مزحة ، فأنا في موقف لا احسد عليه . يفترض بي ايجاد زوجة قبل عيد مولدي التالي ، وعلي ان ابقى متزوجا من المرأة التي اختارها لمدة سنة".
تمتمت غرايس وقد اصابها الذهول :" ومتى يحين عيد مولدك؟"
-بعد شهرين من الآن .
-اذا ، فالامر مستعجل الى حد بعيد.
بدا لغرايس ان هذا الموقف بأسره يميل الى السوريالية، واحست كما لو انها تائهة في صفحات كتاب "اليس في بلاد العجائب".
راح خافيير يراقبها مشككا بعينيه الذهبيتين المدهشتين. بدت غرايس مدركة بقوة للارتعاش الذي انتابها بسبب الانجذاب الذي تردد بينهما . احست لوهلة برغبة في الهروب من هنا ، لكن النبرة الامرة البادية في صوته منعتها من ذلك.
-اجلسي آنسة بيريسفورد . افترض أنه تجدر بي مناداتك غرايس بما اننا اصبحنا مخطوبين.
ردت غرايس بنبرة لاذعة وقد اغضبها اسلوبه المتسلط :" انا لم اوافق بعد".
رماها خافيير بنظرة تنم عن الضجر ، وقال :" لكنني ظننت ان الخيارات نفدت منك ".
-نعم. انها كذلك، لكن يبدو انك في وضع مماثل.
جلست غرايس على احدى الكراسي وهي تشعر بالامتنان ، محاولة استعادة رباطة جأشها . ادركت بفضل حاستها السادسة بأن تعابير وجه خافيير الباردة اللامبالية هي مجرد ستارة لما يخفيه من الاحباط الداخلي . يبدو انه مجبر على ايجاد زوجة لسبب تجهله، لذا فهو بحاجة اليها بقدر ما هي بحاجة اليه ، وهذا الامر يضعها في موقع قوي يسمح لها بالمساومة.
سألته :" لماذا يجدر بك ان تتزوج؟"
لبرهة قصيرة اعتقدت انه سيرفض الرد عليها. توهجت عيناه بغضب مفاجئ ، ثم قال :" بحسب شروط وصية جدي يجب علي ان اتزوج ، والا فأنني سأفقد حقي في ادارة مصرف هيريرا لصالح نسيب لي"
اخبرها ذلك فيما بدا صوته ممزوجا بالمرارة.
-يبدو ان المصرف مهم جدا بالنسبة اليك .
صحح لها خافيير بشراسة :" إنه حقي بالولادة ، وهو الشيء الوحيد المهم بالنسبة الي".
قالت غرايس بعد تردد :" فهمت. لكن مما سمعت ، انت لا تفتقر الى النساء في حياتك . لماذا اذا لاتطلب من احداهن الزواج بك؟"
اقر خافيير بنبرة فظة جعلت غرايس تجفل :"سيكون الامر اشبه بالجحيم حين يأتي وقت الدفع للتخلص منهن. هذا الزواج هو بمثابة عرض عمل لا اكثر ، لكن ذكر كلمة "زواج" امام غالبية النساء ، يجعلهن يقفزن الى التصور المضحك السخيف للحب".
قالت غرايس ببطء وهي تحاول استيعاب مايجري :" أتعني ... أنك اذا اخترت احدى صديقاتك الحميمات ، فأنك تخشى.... أن تقع في غرامك؟ ان غرورك كبير الى حد يخطف الانفاس . ما الذي يجعلك تعتقد بأنك مميز الى هذا الحد؟"
رد خافيير بنبرة جافة :" ثروتي التي تقدر بعدة ملايين من الجنيهات. تعلمت في سن مبكرة من عمري ان المال هو اكثر ما يثير شهية النساء . اليس هذا هو سبب وجودك هنا؟"
اردف بصوت حريري :" انت تريدين مني ان ان اسقط التهم الموجهة الى لص كافأ ثقتي به بالخيانة، مستغلا الموقع الذي وهبته له".
أحست غرايس ان وجنتيها تتوردان خجلا ، فقالت بصوت ابح :" ليس الامر كذلك . قلت لك ان والدي كان في حالة يأس تام، ولم يجد امامه خيارا اخر"
دفع خافيير كرسيه الى الوراء ثم دار حول مكتبه متجها نحو غرايس، فأحست هذه الاخيرة فجأة ان جاذبيته الحادة تغمرها . تسارعت نبضات قبلها عندما اسند وركه على حافة المكتب وانحنى ليدنو منها ، آسرا عينيها بنظراته. واذهلتها قوة كلماته اذ قال :" جميعنا نملك الخيارات ، غرايس. يمكنك ان تختاري منحي سنة من عمرك مقابل إعفائي والدك من الملاحقة القانونية ومن فترة حكم طويلة بالسجن".
فكرت غرايس مذهولة ان عينيه اشبه بعيني النمر ، فيما حدقت في عمقهمها الكهرماني المتوهج.
همست قائلة :" لا اظنني قادرة على فعل ذلك. الزواج ارتباط مقدس مميز. إنه اتحاد شخصين يقفان امام الله ويتعهدان بأن يحب كل منهما الاخر طيلة حياتهما. أما ما تقترحه انت فهو .... لا اخلاقي"
تمتم خافيير متهكما :" وهل اختلاس ثلاثة ملايين جنيه اخلاقي؟ اظن ان من الافضل ان نضع جانبا التساؤل حول مدى الاخلاقية في هذا الامر، غرايس. انت ترغبين بأن يعفى والدك من الحكم بالسجن ، وانا استطيع مساعدتك في ذلك".
اظهرت الارتعاشة في شفتها السفلى توترها ، فيما تصلب فك خافيير وقال مزمجرا بنفاد صبر :" ان تصبحي الدوقة دو هيريرا، اليس خيارا افضل من قيامك بتنظيف الارضيات لدي؟"
تمتمت غرايس متجاهلة النظرة الساخرة البادية على وجهه :" لا احبذ فكرة الكذب"
حسنا ! ماهي الخيارات التي تملكها حقا؟ ان لم توافق على الزواج من خافيير لاشك ان والدها سيدخل السجن. يجدر بها ان تفعل هذا. قالت من دون تفكير :" حسنا! اوافق على عرض العمل الذي تقدمه لي. سأصبح زوجتك لمدة سنة ، لكن مقابل ذلك اريدك ان تلغي كل الديون المترتبة على والدي، وتسدد المبلغ المتوجب عليه الى المصرف من حسابك الخاص".
تابعت بصوت خال من الاحاسيس ، آملة ان يخفي ذلك حقيقة ان قلبها يدق بقوة في صدرها :" واريدك ان تسقط كل التهم الموجهة ضد والدي . حين تفعل ذلك ، سأصبح انا عروسك".
تحرك خافيير بسرعة كما لو انه نمر كبير يطبق على فريسته ، فوضع كلتا يديه على المسندين الموجودين على جانبي كرسيها، قال لها بوحشية :" انت تعطين قيمة كبيرة لنفسك ، آنسة بيريسفورد . يبدو انك نسيت انني انا من يضع الشروط هنا . ماذا ستفعلين لو قلت انني كنت اخدعك ، وانني سأرميك خارجا من دون اي فلس؟"
آه يا الهي! هل سيفعل ذلك؟ اخذت غرايس نفسا مرتعشا واجبرت عينيها على ملاقاة نظراته الثاقبة ، ثم تكلمت بصوت كذب توترها الصارخ قائلة :" لن تفعل. فأنت بحاجة الي بقدر ما انا بحاجة اليك، واستطيع ان اؤكد لك تماما بأنني سوف ابدأ بعد الساعات التي تفصلنا عن الطلاق بشوق بالغ منذ اليوم الاول لزواجنا . لا مجال ابدا لأن اغرم بك ".
قالت غرايس ذلك وهي تحني ذقنها بحيث اصبح وجهها على بعد انشات قليلة من وجهه. استطاعت ان تشعر برغبته في ان يخضعها لأرادته، لكنها ترفض ان يخيفها او يرعبها . اذا كان يتوجب عليها ان تصمد سنة لتلعب دور زوجته ، فهي لا تستطيع ان تسمح له بالسيطرة عليها .
ساد توتر حاد جدا بينهما ، وبدا كأن الهواء الموجود بينهما يفرقع بشحنات كهربائية. شعرت غرايس بالحرارة المنبعثة من جسده تغمرها ، فحدقت في عينيه وعلمت انه يشعر بالرغبة في معانقتها. كتمت شهقة كادت تخرج من فمها حين اخفض خافيير رأسه ببطء. احست ان جفنيها ثقيلان وان رموشها تنخفض فوق عينيها . لكنها عادت وفتحت عينيها مجددا حين امسك خافيير بسرعة قبضة مليئة من شعرها الطويل عوضا من معانقتها ، ما جعلها ترفع رأسها بقوة الى الاعلى .
لدى رؤية تعابير وجهها المصدومة ، التوى فم خافيير مظهرا ابتسامة اطلعتها انه مدرك لخيبة املها . قال لها :" انت لست تلك الزهرة الهشة كما اعتقدتك . اليس كذلك غرايس؟ ان جمالك الرقيق يخفي عقلك المخادع الذي يكاد يتطابق مع عقلي انا".
وقبل ان تحظى غرايس بوقت لتتفاعل مع ما قاله، اقترب خافيير منها وعانقها عناقا وحشيا مطالبا بتجاوبها ، كما لو ان ذلك حقه .
بعد قليل افلتها ثم استقام في جلسته ، فيما التمعت عيناه الذهبيتان . أضاف بسخرية :" اتفقنا انسة بيريسفورد. سوف نتزوج حالما نستطيع ترتيب الامر. يخالجني شعور بأنها سوف تكون سنة مثيرة للاهتمام ".
احست غرايس كما لو ان يدا باردة ملؤها الجزع والخوف تطبق على قلبها ، لكنها اجبرت نفسها على النهوض ، فوجهت له نظرة جليدية ثم قالت :" اتوقع ان تكون اسوأ سنة في حياتي".
اجابها بنبرة جافة :" انا واثق انك ستجدين ما يعوضك بكونك زوجة لرجل مليونير . فكري بكل التسوق الذي يمكنك ان تنهمكي فيه".
استدار خافيير حول مكتبه ، ثم رفع سماعة الهاتف وزمجر سلسلة تعليمات. ادركت غرايس انه لم يعد يوليها اي اهتمام ، وانه عاد الى ممارسة عمله بعد ان حل مشكلة ايجاد زوجة له. افترضت انه سوف يصرفها من هنا حتى يحين موعد الزواج الذي سوف يربطهما سويا بشكل قانوني. لا بأس، فوالدها سوف يصبح حرا، ويجدر بها ان تتمسك بهذه الفكرة المريحة خلال السنة القادمة . بدأت بالانسحاب نحو الباب شيئا فشيئا ، الى ان اوقفها صوت خافيير الجاف المقتضب، حيث قال :" الى اين تظنين نفسك ذاهبة؟"
غروره وعجرفته جعلاها تغلي من الداخل ، لكنها لم تجرؤ على ازعاجه . ابتسمت غرايس بتردد، وقالت :" سوف اجد سيارتي واقود عائدة الى غرناطة . هل تريدني ان انتظر هنا لعدة ايام ام اعود الى انكلترا وانتظر حتى تتصل بي؟"
أجابها خافيير ببرود :" لا هذا ولا ذاك . انا مغادر الى مدريد خلال دقائق وسوف ترافقينني ".
-عرين الأسد
قصر الأسد هو قصر ذو طراز مراكشي تم بناؤه في جبال سييرا نيفادا المرتفعة في القرن الثاني عشر ، وهو يطل على مدينة غرناطة.
راحت الطريق المؤدية الى القصر تزداد انحداراً كلما اقتربت ، فاضطرت غرايس الى نقل مقبض تبديل السرعة الى سرعة أعلى عندما واجهت انحناءً خطيراً آخر في طريقها. فكرت وهي تحدق صعوداً نحو القصر الذي بدا وكأنه يتشبث بقوة بتلك الصخور الشامخة على حافة الجرف المنحدر ، انها لو صعدت بسيارتها اكثر فقد تصل الى الغيوم.
بدت قمم الجبال البعيدة اكثر ارتفاعا ، وهي ماتزال مغطاة بالثلوج . بدا المنظر الطبيعي نضرا واخضر مع ان السماء تمطر . أقرت غرايس بكآبة ان الطقس الموحش يتلائم مع مزاجها .
لدى وصولها الى غرناطة قال لها مدير الفندق :" هطلت الامطار لمدة ثلاثة ايام وهو امر غير اعتيادي خلال هذا الوقت المتأخر من فصل الربيع . لكن انتظري ، فغدا سوف تشرق الشمس وسوف تجعلك سعيدة ".
فكرت غرايس متنهدة ان مدير الفندق لايعرف شيئا عن مزاجها ، فالأمر سيتطلب اكثر من مجرد تبديل في حالة الطقس حتى ترتفع معنوياتها . تخيلت للحضة وجه والدها الشاحب المنهك مرتميا على كرسيه وقد نبت شعر ذقنه . انهار مدير المصرف الفخور الانيق اللباس قبالة عينيها ، وحل محله رجل وصل الى آخر رمق من امكانياته .
- ليس هنالك مايمكنك فعله ، عزيزتي .
قال لها أنغوس ذلك محاولا من دون جدوى أن يبتسم . أدركت غرايس انه يحاول حماية ابنته الوحيدة ، إلا أن هذا شحذ تصميمها وعزمها لكي تفعل شيئا ما . والدها هو بطل بالنسبة اليها ، وهو بطل بالنسبة إليها ، وهو أروع رجل في العالم ، لكن المبلغ الهائل الذي اختلسه من المصرف جعل رأسها يدور في دوامة مع انها فهمت أسبابه ودوافعه . تلك السنوات التي قضاها في الاهتمام بصحة والدتها التي اصيبت بمرض الاضطراب العصبي الوظيفي دمرته تماما . بحث أنغوس في العالم بأسره طلبا لعلاج لهذا المرض العضال الذي لا شفاء منه . جرب كل شيء أملا في تخفيف معاناة زوجته المحبوبة ، بدءا من العلاج بالأعشاب الصينية إلى العلاج التكاملي والعلاجات المكلفة في الولايات المتحدة الاميركية .
في النهاية اتضح ان هذه العلاجات من دون جدوى ، فسوزان بيريسفورد توفيت منذ عامين ، قبل اسابيع قليلة من بلوغ غرايس الحادية والعشرين من عمرها . ومنذ اسابيع قليلة فقط علمت غرايس ان أنغوس حصل على الاموال الطائلة التي احتاجها لعلاج والدتها من المقامرة ، كما علمت ان ادمانه خرج عن السيطرة ما دفعه الى "اقتراض" الأموال لدفع ديونه من المصرف الاوربي ، وهو الفرع البريطاني لمصرف هيريرا .
لم تستطع غرايس اخفاء صدمتها لدى معرفتها بهول ما فعله والدها ، فنعق أنغوس قائلا :" لطالما نويت أن أسدد ما علي ؛ أقسم بذلك . كان بوسعي أن اعيد الاموال التي أقترضتها ، وأن أغلق الحسابات المزيفة التي فتحتها من دون ان يعلم أحد بذلك ".
أما الآن فهم يعلمون! قام أحد مدققي الحسابات باكتشاف بعض المخالفات ، ما اطلق سلسلة من التحقيقات الأكثر عمقا ، وتم التبليغ عن هذه المخالفات إلى رؤساء مصرف هيريرا . لم يكن بوسع غرايس سوى الوقوف جانبا ومشاهدة عالمها وهو ينهار ، والاهم من ذلك رؤية والدها يسقط الى الحضيض .
جرجرت غرايس ذهنها فأعادته الى الحاضر ، تابعت القيادة صعودا على الطريق التي تحف بها الاشجار على الجانبين ، والتي تتلاقى على شكل قوس في وسط الطريق . لكن ما إن التفتت السيارة حول منعطف آخر حاد جدا ، حتى شهقت وقبضت على عجلة القيادة . استطاعت أن ترى ببساطة حافة الطريق في الارض المقطوعة الاشجار ، وتخيلت السقوط المروع من فوق حافة الجبل .
تمتمت مقطوعة الانفاس :" يا إلهي! "
احست أن كفيها اصبحا رطبين بسبب التعرق حين صدمها إدراكها أن أية خطوة خاطئة يمكن ان تسبب لها الانقلاب بعنف من فوق حافة الهاوية إنها تكره المرتفعات أخذ رأسها يدور فيما قاومت الشعور بالغثيان الذي سيطر عليها. احست غرايس لوهلة بالرغبة في أن تستدير وتعود أدراجها لكن الطريق بدت ضيقة جداً لدرجة لاتسمح لها بمحاولة الالتفاف بالسيارة نحو الاتجاه الآخر. فضلاً عن ذلك ، فكرت بحزن أن لديها عمل يجدر بها انجازه : الوصول الى قصر الأسد ، موطن اسلاف عائلة هيريرا .
راحت تصلي لأن يكون الدوق الجديد موجوداً في المنزل . لم تلقَ أي من الرسائل التي أرسلتها إليه جواباً ، أما محاولتها للاتصال به هاتفياً فقد صدها فريق عمله البالغ الفعاليه . دفع اليأس بغرايس إلى السفر قاصدة مكاتب المصرف في مدريد ، ومن هناك سافرت بالطائرة إلى جنوب غرناطة ، حيث تم إعلامها بأن الرئيس يقيم في مقره الخاص في الجبال . أقسمت غرايس بحزن إنها سوف تقابل خافيير هيريرا ، أو أنها ستموت في محاولتها لفعل ذلك ، وركزت على الطريق الممتدة أمامها . شعرت بالارتياح حين استوت الطريق اخيراً ، وحين استدارت بالسيارة حول المنعطف التالي ظهر القصر الشامخ مرتفعاً أمامها . إنها قلعة مراكشية مهيبة . بدت رمادية وغير مرحبة تحت تأثير رذاذ المطر الخفيف .
راح قلب غرايس يتخبط بقوة حين خرجت على مهل من السيارة.
بدا القصر نموذجاً حقيقاً مؤثراً عن فن العمارة المراكشي . لكن عيني غرايس انجذبتا نحو الباب الأمامي الصلب المنيع ، الذي يحرسه من كلا الجانبين أسدان حجريان قابعان بصمت ، وهما يراقبانها كما لو انهما يرغبان بالانقضاض عليها . فكرت مرتعدة أنها لاترغب بالتواجد هنا عندما يحل الظلام .
لكن الدوق دوهيريرا هو الشخص الوحيد الذي يمتلك القدرة على انقاذ والدها .
كان المطر الخفيف قد بلل فستانها الخفيف الرقيق باعثاً القشعريرة في بشرتها. هرعت الى السيارة لتتناول الوشاح الرقيق الذي قذفته الى السيارة لتأخذه معها في آخر لحظة وهو مصنوع من اجود وأنعم أصواف الكشمير .
اقرت غرايس بأسف وحزن ان شراءه هو اسراف وتبذير مفرطين ، حتى قبل أن تكتشف مشاكل والدها المالية . لكنه على الاقل يشعرها بالدفء الآن وهي تلفه وتمسك به حول كتفيها .
اندفعت صعوداً على الدرج الأمامي للقصر ، وما إن رفعت يدها لتجذب الحبل الخاص بقرع الجرس حتى فُتح الباب وظهر أمامها شخصان .
ادركت على الفور أن أحدهما هو رئيس خدم القصر ، أما الآخر فهو رجل متقدم في السن ذو شاربين ملفتين للنظر .
تلعثمت غرايس قائلة :" جئت ... لمقابلة الدوق دو هيريرا ".
أحست بالامتنان لأنها تتحدث الاسبانية بطلاقة ، والفضل في ذلك يعود الى السنوات التي امضت خلالها اجازاتها مع عمتها بام في جنوب اسبانيا .
اخبرها الرجل الاكبر سنا بفظاظة :" انا لا انصحك بذلك سنيوريتا اذا كنت تخافين على حياتك ، فالدوق ليس في افضل مزاج له ".
غمرها الامل لمعرفتها ان خافيير هيريرا موجود هنا . جل ما عليها ان تفعله هو اقناع رئيس الخدم المتجهم الوجه بأن يسمح لها برؤيته . بعد مرور بضع دقائق كانت غرايس ماتزال واقفة على الدرج . توسلت الرجل للمرة الاخيرة فيما بدأ باب خشب السنديان الثقيل بالأنغلاق ليقفل في وجهها :" ارجوك"
اجابها رئيس الخدم بنفاذ صبر قائلا :" انا آسف ، لكن هذا مستحيل. فالدوق لا يقابل ابدا ضيوفا غير مدعوين ".
- لكن ... فقط اخبره انني هنا .... لن آخذ سوى خمس دقائق من وقته.
ارتدت صرخة غرايس اليائسة عن الباب الخشبي الصلب ، عندئذ استسلمت بدافع الاحباط الى رغبتها الصبيانية بركل الباب الامامي ، ولم تفاجأ حين بقي مقفلا بثبات . بالطبع تم بناء هذا القصر ليقاوم جيشا من الغزاة ، فكيف تستطيع امرأة شابة نحيلة البنية ، ان تخترق دفاعات هذا الحصن المنيع ؟
غمغمت غرايس متذمرة وهي تطرف بعينيها لتمنع دموعها من التساقط قائلة :" اللعنة عليك ، خافيير هيريرا !".
يبدو أنه لم يعد امامها اي خيار آخر سوى الالتفات بسيارتها لتعود من الطريق الجبلية التلي سلكتها نفسها ، لكنها لم تقو على تحمل فكرة فشلها في تحقيق مبتغاها . ان الدوق دو هيريرا موجود هنا ، في الجهة المقابلة لهذه الجدران ، ولابد ان تكون هنالك طريقة ما للوصول إليه واجباره على الاصغاء اليها .
لطالما كان والدها يغيظها قائلا إن عنادها الزائد يعوض ع الانشات القليلة التي تنقصها في الطول . مجددا حضرتها الصورة الذهنية الواضحة لوالدها الذي احاطت هالتان حمراوتان بعينيه بسبب افتقاره الى النوم ، اما جسده الذي كان قويا صلبا في ما مضى ، فأصبح هزيلا بسبب الضغوط النفسية وفقدانه الشهية . ليت بمقدورها أن تزيل خوف والدها ورعبه من فكرة ادخاله الى السجن ، عله يصبح قادرا على اخراج نفسه من اساه العميق .
توقفت الامطار عن الهطول ، وبالرغم من ان السماء ما زالت رمادية ، الا ان اشعة الشمس الباهتة كانت تحاول بشجاعة ان تبعث الدفء الى تلك المنطقة . لاحظت غرايس عبر الباحة الخارجية وجود بوابة ذات قنطرة في الحائط . قالت لنفسها على الارجح ان البوابة المصنوعة من الحديد مقفلة ، لكنها اندهشت حين تمكنت من فتحها ، فخطت الى الداخل بسرعة . بدت الحديقة رائعة التصميم ومتميزة جدا ، كما لو انها لمحة من الجنة ، ما اثار في نفسها شعورا مهدئا مسكنا . عكست سلسلة من البرك المربعة الشكل ذات المياه الصافية صور اشجار نخيل استوائية . في حين تناثر رذاذ نوافير المياه المنعش عليها مسكنا اعصابها المنهكة . اما الورود التي تطاولت بأعناقها نحو السماء ، فقد علقت على وريقاتها المخملية قطرات الماء التي بدت كحبات من اللؤلؤ .
اندفعت غرايس من دون تفكير وقطفت احدى الورود ، ثم احنت رأسها لتستنشق عبيرها بشغف . للحظات ثمينة احست ان أعباء همومها ترتفع عن كاهلها . ليتها تستطيع المكوث هنا الى الابد ، وهي تصغي الى زقزقة العصافير اللطيفة ! تمشت على طول الممرات الضيقة في الحديقة ، ناسية انه يفترض بها ان تبحث عن طريقة لأقتحام القصر . أزاحت بعيدا عن تفكيرها ذكرى بؤس والدها وحاجتها الى ايجاد الدوق دو هيريرا ، اضافة الى خشيتها من فكرة قيادة السيارة في طريق العودة نزولا على الطريق الجبلية المنحدرة الملتوية حتى تعود الى غرناطة . لم تعرف غرايس ما الذي دفع بها الى قطع حبل تأملها الصامت لبرك المياه . لم يعد هناك اي صوت .... حتى العصافير توقفت عن الغناء . ساورها احساس غريب بالوخز حل بين كتفيها ، كما تصاعد في داخلها شعور بأن احدهم يراقبها . ادارت رأسها ببطء ، وعلقت الانفاس في صدرها .
كان الرجل واقفا في ناحية بعيدة من الحديقة ، لكن طوله بدا ملحوظا جدا حتى من هذه المسافة . كان يرتدي معطفا من اللون الاخضر الغامق اللماع ، يصل الى ما تحت ركبتيه ويحتك بجزمته الجلدية . اما القبة التي تعلوها قلنسوة فجعلت مظهره اشبه بمظهر احد المحاربين من العصور الوسطى . جذب الرجل قبعته ذات الحافة العريضة فوق عينيه مغطيا وجهه ، فيما استشعرت غرايس قدرته وقوته . لفت انتباهها كلب الدوبرمان النحيل الاسود الواقف الى جانبه ، فأحست بالخوف يتمخض في اعماق معدتها . هذا الحيوان لايبدو حيوانا اليفا لطيفا ودودا . لا شك أنه كلب حراسة ، اما الرجل فلا بد أنه احد موظفي الحراسة في القصر .
فكرت ان الخيار الاكثر عقلانية هو بأن تدنو من رجل الامن هذا فتعتذر على فعلتها ، لكن مخيلتها صورت لها انه يبدو كقابض للارواح ، لذلك حلت غريزتها مكان تفكيرها المنطقي ، فاستدرات حول نفسها وفرت هاربة وهي تصرخ . ألقت نظرة سريعة من فوق كتفها ، فأتضح لها ان الرجل اطلق سراح كلبه وبدأ هذا الاخير يركض عبر الحديقة متجها نحوها . راح الدم يتخبط داخل اذني غرايس ، وهي تندفع بعنف عبر ممرات الحديقة باحثة بيأس عن مخرج للفرار . كانت الحديقة محاطة من جهات ثلاث بحائط مرتفع ، اما من الجهة الرابعة فكان الحائط اقل ارتفاعا ، فيما بدت احجار الطوب فيه قديمة ومتداعية . كاد الكلب يصل إليها ، واستطاعت ان تسمع أنفاسه الخشنة المزعجة تدنو منها شيئا فشيئا ، كما تخيلت انيابه الحادة تنغرس في لحمها . انطلقت غرايس بقوة في ممر آخر من ممرات الحديقة ، وبدأت تتسلق الحائط القديم بسرعة هائلة متولدة من يأسها .
وفرت لها احجار الطوب موطئ لقدمها ، ماسمح لها بالوصول الى حافة السور مستخدمة كل طاقاتها وقوتها . طمأنت نفسها انها باتت بمأمن الآن ، أما الكلب القابع في الأسفل فراح ينبح بصوت عنيف شرس . آه! مع القليل من الحظ يمكنها ان تتسلق الحائط فتجتازه الى الناحية الأخرى حيث الأمان . بعد ان ألقت غرايس نظرة اخيرة على الحيوان المتوحش ، علقت إحدى رجليها فوق حافة السور ثم اطلقت صرخة رعب . فخلف الحائط تنحدر الارض نحو هاوية سحيقة تبلغ بضع مئات من الاقدام . لو رمت بنفسها من فوق السور سوف تموت ، أما البديل الوحيد فهو العودة نزولا نحو الحديقة حيث ينتظرها الكلب ولعابه يسيل .
لم تعد غرايس تستطيع الحراك بعد ان شلها الخوف ، لذا حافظت على توازنها على حافة السور وراقبت الرجل يدنو منها .
- هذا يكفي لوكا !
تمشى خافيير من دون تسرع نحو الجهة البعيدة من الحديقة ، فنادى كلبه ليعود اعقابه . هناك كانت المرأة -او الفتاة كما صحح لنفسه بعد ان القى نظرة وجيزة الى الاعلى- تتعلق بحافة السور كما لو ان حياتها متعلقة بها ، وقد خلا وجهها من اية لكحة من اللون ، فبدا شاحبا وسيطرت عليه عينان هائلتان يغمرهما الخوف . لم يشعر خافيير بأقل لمحة من الشفقة عليها . فكر بعبوس ان بمقدورها ان تبقى قابعة هناك طيلة النهار ، فهو لن يهتم لأمرها . لقد سئم من اولئك الصحافيين المتطفلين الذين يقتفون تحركاته لرصد الشائعات ونقل الاخبار . اثناء تواجده في المدينة ، يقبعون في سياراتهم خارج مكتبه على امل التقاط صورة او خبر متعلق به ، او يجتمعون في حشود امام النوادي الليلية المشهورة مصممين على القبض عليه وهو برفقة احدى عشيقاته . اما اكتشافه لهذه الصحافية على اراضي قصره فهي آخر اهانة يتقبلها خلال أسوأ يوم في حياته .
سألها خافيير بنفاذ صبر :" كيف دخلت الى هنا؟ وما الذي تريدينه ؟".
لم ير معها آلة تصوير فوتوغرافي ، لعلها اسقطتها في الحديقة حين هربت من لوكا . بقيت الفتاة صامتة ، فتصلب فك خافيير . انه ليس في مزاج يسمح له بتحمل الألاعيب ، وهو يريدها ان تخرج من ارضه حالا . أمرها قائلا :" أنزلي! الكلب مربوط برسنه ولن يؤذيك ".
بالرغم من ذلك لم يلق منها جوابا ، لذا ضاقت عيناه وهو يتمعن في بشرتها الباهتة . لاحظ ان شعرها مخبأ تحت وشاح لفته حول رأسها وكتفيها فأصبح كالقلنسوة ، لكنه علم بغريزته أنها ليست اسبانية الاصل ، فكرر طلبه باللغة الانكليزية .
امتدت فترة الصمت بينهما ، ثم قالت غرايس في نهاية الامر بصوت بالكاد يتخطى الهمس :" لا أستطيع ".
خوفها من الوقوع الى الهاوية أرعبها بشدة فانسد حلقها وباتت عاجزة عن الكلام . لم تعد تقوى على الحراك ، وبالكاد تمكنت من التنفس .
- سنيوريتا ، عليك ان تنزلي .
الحدة التي ظهرت في صوت الرجل اخترقت غمامة الخوف التي غلفت ذهن غرايس ، فأدارت رأسها بحذر لتحدق به نزولا . لاحظ خافيير ان المرأة على وشك ان تصاب بالاغماء . تفحص الحائط بنظرة سريعة ، وهو يتلفظ بشتيمة قاسية . يمكنه ان يتسلق الحائط لينقذها ، لكن الخوف احساس يصعب التنبؤ بتبعاته . ان تحركت مبتعدة عنه ، فستسقط على الارجح من فوق الحافة على الصخور الناتئة في الجهة الاخرى من الحائط . كبح غضبه ، ولطف نبرة صوته قائلا :" ما من داع لأن تخافي . أنا لن اؤذيك ، كما لن يؤذيك الكلب . اقفزي الى هذه الجهة وسوف التقطك ".
بغض النظر عن مدى كرهه للصحافيين ، إلا انه لا يرغب برؤية الفتاة تهوي لتسقط ميتة . ترنحت غرايس وقد اصبحت بشرتها رمادية اللون ، فيما اغمضت عينيها وتدلى رأسها بتكاسل الى الامام . مد يديه الى الاعلى وقال لها بنبرة آمنة :" اقفزي بين ذراعي سنيوريتا . سوفتكونين بمأمن معي . ما اسمك؟"
حين هوت غرايس انزلق الوشاح عن رأسها ، فتطاير شعرها حول كتفيها كشلال حريري ذي لون بني باهت . اما صوتها فطاف نزولا نحوه ، بحيث همست كلماتها قبل ان تغوص في الظلام قائلة :" اسمي هو .... غرايس .... بيريسفورد ".
لفتها شرنقة ملؤها الدفء بعثت فيها شعورا مريحا مهدئا ، وطن تحت اذنها قرع متواصل كقرع الطبول . لكن شعورها بالامان لم يطل كثيرا ، فقد تطفلت الحقيقة على اذنها المستريح حاملة معها ذكرى تلك اللحضات الاخيرة المرعبة ، حين تعلقت بالحائط ، فواجهتها الهاوية الحادة من احدى الجهات ، ومن الجهة الاخرى شخص غريب لا وجه له يرافقه كلب متوحش شرس . فجأة انفتحت عيناها ، فعاد الخوف ليملئ قلبها . تكلمت بصوت بدا مزعجا جدا لشدة خفوته ، اذ قالت :" الى اين تأخذني ؟"
لدى سماعه كلماتها توقف الرجل عن السير ، فوضعها ارضا بغير رفق . كل ما استطاعت غرايس رؤيته لمحة من ملامح وجهه المغطى بحافة قبعته ، لكن فكه المربع اعطاها فكرة عن قوته وصلابته . احست ان الارض تدور تحت قدميها بشكل ينبئ بالخطر . غمرها شعور بالغثيان والتوت رجلاها ، فسقطت على ركبتيها . لم يقم الرجل بأية محاولة لمساعدتها على النهوض ، بل انحنى ببساطة فوقها فيما عي راكعة على العشب الرطب المبلل ، فأحست ان تفحصه الصامت لها بدء يفقدها اعصابها . اما الكلب فجلس عند قدميه . اطلقت غرايس تنهيدة ارتياح خافتة عندما لاحظت ان الرسن مربوط بالطوق الموجود حول عنق الكلب.
قالت وهي غير قادرة على منع الرجفة من صوتها :" لا اصدق أنك اطلقت كلبك في أثري ".
رد الرجل بخشونة قائلا :" انا لا احب المتطفلين على أملاك الغير ".
جاء صوته رزينا مهيبا ومنخفض النبرة ، لكنه تحدث الانكليزية بطلاقة بالرغم من لكنته القوية البادية بوضوح . أمالت غرايس راسها فنظرت أليه بفضول ، وقد ازعجتها وقفته المتعجرفة . بالنظى الى مظهره افترضت أنه أحد رجال الحراسة في هذه الملكية . لكن الرجل راح يحدق بها نزولا كما لو انه يمتلك المكان .
زمجر قائلا :" لماذا جئت إلى هنا ؟"
- جئت لمقابلة الدوق دو هيريرا .
احست غرايس بشكل ما ان وضعها وهي راكعة أمامه ليس لصالحها ، لذا استنشقت نفسا عميقا واجبرت نفسها على النهوض على قدميها . أما الرجل فلم يعرض اي مساعدة او مساندة لها ، بل راقبها بصمت قاتل .
- لأي سبب؟
صرت غرايس على اسنانها بحدة لدى سماعها سؤاله ، ثم رفعت ذقنها وحدقت به ؛ متمنية لو ان بمقدورها رؤية وجهه .
- لأسباب شخصية .
توقفت عن كلامها وقد انجذبت عيناها نحو ذراعيه القويتين وصدره العريض . لا شك ان هذا الرجل أنقذها من سقوط كان لينتج عنه تكسر عظامها . تمتمت بصوت ابح :" أشكرك على التقاطي . اقدر بأن هذه الحديقة خاصة . لكنني جئت لمقابلة ....".
تشتت حديثها بشكل بائس ، فيما تذكرت محاولتها الفاشلة للحصول على مقابلة مع الدوق دو هيريرا المراوغ .
اعلمها الرجل بنبرة متعالية :" الدوق لا يستقبل زوارا غير مدعوين ".
بدأ خوف غرايس يتلاشى الآن واصبحت قدماها ثابتتين على الارض ، فتذكرت السبب الذي دفعها الى أقتحام الحديقة أصلا ؛ كانت مصممة على إيجاد طريقة للدخول إلى القصر ، ومع قليل من الحظ قد يساعدها هذا الرجل الريفي الفظ على تحقيق مبتغاها .
- انا لست زائرة غير مدعوة. لدي دعوة .
قالت غرايس ذلك كاذبة ، فأنطلق لسانها فورا لترطيب شفتيها اللتين جفتا فجأة . لم يبدر الرجل اي جواب لكن لغة جسده دلت ببساطة على عدم تصديقه ، ماتسبب في زيادة انزعاجها . قالت وهي ترفع عينيها الزرقاوين الصافيتين نحوه مبتسمة بتردد :" نعم . وصلت باكرا ، وقررت استكشاف اراضي الملكية عوضا عن الانتظار في السيارة . انا آسفة . اعتقد ان الدوق قد يكون مستعدا لمقابلتي الآن . لعلك تستطيع مرافقتي اليه؟"
استمر تدقيق الرجل وتفحصه الصامت لغرايس لفترة طويلة . اخيرا اخترق الهواء الساكن فجأة ، فقفزت غرايس مجفلة حين سألها :" هل أنت واثقة من رغبتك بدخول قصر الاسد ، آنسة بيريسفورد؟"
أهذا تلميح خفيف بالتهديد في صوته؟ لعنت مخيلتها المبالغة في تصوراتها ، ثم ردت بحدة ورشاقة :" بالطبع . سأتبعك ".
- تفضلي!
هذه المرة لم يكن هنالك أي شك في وجود النبرة المهينة في صوته ، لكن الرجل لم يضف اي شيء على كلامه ، بل استدار على عقبيه ببساطة وبدأ يسير بخطوات كبيرة عبر الحديقة ، فيما هرول الكلب إلى جانبه . لم يزعج نفسه ليستدير حتى يتحقق إن كانت تتبعه أم لا ، لذلك اضطرت إلى الهرولة حتى تلحق به.
مع دخولهما الى القصر من باب جانبي كانت غرايس تشعر بالحرارة وانقطاع الانفاس . لكنها تبعت دليلها صعودا على درج حجري شاهق شديد الانحدار . شعرت بالارتياح لأنها لم تر أي اثر لرئيس الخدم الفضولي الذي كان قد رفض التماساتها وتوسلاتها حتى تقابل الدوق قبل قليل . فكرت انها وصلت الآن الى الداخل ، الى عرين الاسد . حاربت شعورها بالهلع عندما خطت الى غرفة فسيحة امتلأت جدرانها بالكتب . خمنت غرايس ان هذه الغرفة هي غرفة مكتبة الدوق دو هيريرا . تسلل الخوف الى عظامها حين تبعها الرجل الى داخل الغرفة ، وارتجف قلبها عندما اغلق خلفه وسمعت طقطقة القفل الخافتة . أخرج خافيير هاتفه النقال من جيب معطفه ، فتمتم بضع كلمات عبره ، لكن صوته كان خافته جدا لم تفهم ماقاله .
تعمدت غرايس النظر الى ساعة يدها قائلة :" هل سيصل الدوق خلال وقت قريب؟"
رد خافيير بصوت حريري قائلا :" أعدك أنك لن تضطري الى الانتظار مطولا ، آنسة بيريسفورد" .
مجددا التقطت شيئا من السخرية في صوته فأزدادت خشيتها منه . راقبته وهو يفك ازرار معطفه ، ثم يهز كتفيه ليسقط عنهما ، فأنجذبت عيناها إلى بنيته الحسدية الرائعة . كان يرتدي سروالا اسود ضيقا ، فيما كشفت قميصه البيضاء المفتوحة عند العنق عن عنقه الطويل الاسمر اللون . أما في قدميه فقد انتعل جزمة جلدية طويلة الساق . شكله هذا ذكر غرايس بشكل بارون من العصور الوسطى .
- سوف تصل الشرطة الى هنا خلال وقت قصير .
أبلغها خافيير ذلك بابتسامة خالية من اي دفء شقت مساحات وجهه الصلب .
-الشرطة ؟
احست غرايس بالصدمة الى درجة انها فقدت لوهلة القدرة على ايجاد الكلمات المناسبة . أقرت ان ردة فعلها الجسدية تجاه هذا الشخص الغريب الواثق من نفسه امر صعقها الى درجة الغباء . فكرت بحذر ان الوسامة بالكاد تكون وصفا ملائما له . بدا وجهه منحوتا الى حد الكمال مع انه متعحرف فظ الى حد بعيد ، كما ان عظمتي خديه بدتا حادتين . كذلك تممت بشرته الذهبية كلون الزيتون بحاجبين اسودين وشعر أسود كجناحي الغراب . أما عيناه السوداوان الكهرمانيتان فأتقدتا بالنار وهما ترسمان دربا وهميا فوق كل انش من جسدها . احست كما لو ان الرجل يقوم بتفحصها بعناية تحت المجهر ، فأثار هذا الامر غضبها، ودفع باللون الاحمر نحو وجنتيها بشدة . تكلمت بشكل لاذع ، محاولة إخفاء شعورها بالاحراج بسبب ردة فعل جسدها الغدار ، فقالت :" انت لست البستاني. أليس كذلك؟ افترضت انك .... لا تقل لي إنك انت الدوق دو هيريرا ؟"
رفع خافيير أحد حاجبيه باستمتاع ساخر ، وقال: "انت يا آنسة بيريسفورد كاذبة ، كما انك سارقة".
توفف لبرهة ثم تمتم مضيفا :" لابد ان تلك العادة تجري في دماء عائلتكم".
ادركت غرايس مرتعبة ان الرجل هو الدوق نفسه وانه عرف من تكون .
استنشقت نفسا عميقا مكابدة العناء حتى تجد الكلمات المناسبة لتفسير زيارتها هذه . لكن بدا لها كأن دماغها تداعى ، ولم تقو على التوقف عن التحديق به . وجهه ذو الزوايا الحادة ، وانحناءة رأسه المتعجرفة ، فضلا عن عينيه الغريبتين بلونهما الذهبي، كلها عوامل اجتمعت لتترك تأثيرا مخدرا عليها .
قالت متلعثمة :" أقر أنني ... تفوهت بكذبة صغيرة، لكنني لست بسارقة ".
احمرت وجنتاها خجلا حين تذكرت القصة التي لفقتها حيال حصولها على موعد للقاء الدوق. سيصعب عليها اقناع خافيير هيريرا بانها جديرة بالثقة .
- احقا؟ اذا من منحك الاذن بالسرقة من حديقتي؟
تمشى خافيير عبر الغرفة ثم توقف على مقربة شديدة منها، حتى ان احاسيسها التقطت النكهة الحادة لعطره اللاذع . وقفت غرايس مبهورة مخطوفة الانفاس فيما قام بتمرير احدى أنامله بدهاء، نزولا من فكها وصولا الى اسفل عنقها. انحبست انفاس غرايس، فأحست بدوار بسبب افتقارها للأوكسجين . حدقت به عاجزة عن الكلام، ثم شهقت عندما انتزع فجأة الوردة المحشورة في عروة زر الفستان.
همست :"انها مجرد وردة واحدة ".
اما خافيير فتمتم متهكما :" بالطبع! ماقيمة سرقة وردة واحدة في حين ان والدك سلبني مسبقا ملايين الجنيهات؟"
اطلقت غرايس انينا ينم عن اليأس حين صدمها مجددا هول الجريمة التي ارتكبها والدها، فقالت :" آه يا إلهي! أدرك أن الامر يبدو سيئا .."
- لا يبدو الامر سيئا فقط آنسة بيريسفورد، بل يبدو مريعا .
بدا خافيير كالأسد الذي ينتظر الانقضاض على فريسته، فيما بدت غرايس كالفريسة التي دفعها غباؤها الى الدنو كثيرا منه . تمتمت :" آسفة".
ابتلعت الدموع التي سدت حلقها، فيما تذكرت مدى ضخامة المبلغ الذي اختلسه انغوس. إنها ثلاثة ملايين جنيه استرلينينا قام بتحويلها خلال مدة من الزمن الى حسابات مزيفة . ترافق انزلاق والد غرايس الى الاحباط والاسى العميق مع اعتقاده المهووس بأن ضربة حظ واحدة يحظى بها على طاولة الروليت سوف تمكنه من تغطية اموال الدائنين ودفع الاموال التي اقترضها من المصرف .
استهلت غرايس كلامها قائلة :" ادرك ان والدي ارتكب خطأ شنيعا لكن هنالك اسبابا دفعته الى ذلك"
تشدق الدوق دي هيريرا قائلا :" انا واثق ان لديه اسباب، وان بامكانه اصلاع القاضي عليها ".
رن جرس الهاتف الموضوع على مكتب خافيير فالتقط السماعة واصغى للحظة، ثم اعادها الى مكانها قبل ان يوجه لغرايس ابتسامة قاسية اخرى.
ادركت غرابس فطريا بان ذاك الاتصال اعلمه بوصول الشرطة ، فغمرها الهلع. هذه هي فرصتها الوحيدة للدفاع عن قضية والدها ، وهي لن تستسلم من دون مقاومة .
قال خافيير ببرود :" أدهشني لقاؤك والتعرف بك، آنسة بيريسفورد . لكنني أخشى انه حان اوان رحيلك"
- ارجوك! يجدر بك ان تصغي الي. ان والدي ....
- يستحق كل ما يحصل معه.
كان خافيير فد وصل الى الباب، ولغة جسده تحذرها من ان صبره وصل الى حده الاقصى ، لكن غرايس يائسة جدا .
- انه مريض ، مريض عقليا. لم يكن يدري ما يفعله.
اجابها خافيير :" آه! ما بالك؟ انغوس بيريسفورد استغل مكانته كمدير للمصرف ، فأخذ يحول الاموال الى حسابات زائفة خلال الثمانية عشر شهرا الاخيرة ، وهو يدرك تماما ما يفعله "
أطبقت يد خافيير على مقبض الباب، لكن قبل ان يتمكن من فتحه اندفعت غرايس بقوة فاستندت الى الباب الخشبي. تضرعت قائلة :" لم يتمكن والدي من ايجاد طريقة اخرى. ارجوك .... امنحني خمس دقائق من وقتك، ودعني اشرح لك الاسباب التي دفعته لارتكاب فعلته هذه ".
اعتقدت غرايس للحظة كادت توقف قلبها انه سوف يجرها بالقوة بعيدا عن الباب؛ بعد ان اطبق يده حول معصمها بقبضة مؤلمة ، لكن فجأة سمعت طرقة حادة من الجانب الآخر للباب.
تكلم خافيير بأيجاز مستخدما لغته الام ، وهو غير مدرك ان بمقدروه غرايس ان تفهم سؤاله وجواب خادمه الذي ابلغه وصول الشرطة وبأنهم ينتظرون في البهو .
لقد حذرها المحامي بأن والدها سوف يواجه حكما بالسجن لمدة طويلة، وما من شيء يمكن انقاذه الآن . فجأة احست بالارتخاء في عظامها ، أما الدموع التي راحت تتجمع في عينيها منذرة بالانهمار منذ ارتعابها السابق في الحديقة ، فبدأت تنهمر بصمت نزولا على وجنتيها
- خدعة أم حقيقة؟
حدق خافيير بالجدولين الصغيرين اللذين تدفقا نزولا على وجنتي غرايس ، وفكر بازدراء ان النساء غالبا ما ينجحن في تحقيق مآربهن عندما يلجأن الى ذرف الدموع . تساءل كيف يستطيع الجنس الآخر ان ينتقل الى البكاء والدموع في الوقت المناسب . ما زال هذا الامر يدهشه حقا .
بلغ خافيير الخامسة والثلاثين من عمره ، وهو يعيش حياته بنمط سريع جدا بكل ما تحمل الكلمة من معاني . إنه يهوى السيارات السريعة والعلاقات الغرامية الاكثر سرعة. معظم علاقاته لم تتجاوز مرحلة الانطلاق ، فأستمرت لمدة ليلة او اثنتين . تعرف من خلال هذه العلاقات على كل اساليب النساء ، وشاهد كل انواع الحيل التي تستخدمها المرأة في محاولتها لجعل الامور تسير على هواها ، الا ان البكاء هو أسوأ ما ينفره من المرأة من بين جميع اساليبها الاخرى. لماذا اذا جعله منظر دموع هذه المرأة يشعر كما لو ان احدهم طعنه بسكين في احشائه؟ ثمة شيء في عينيها الزرقاوين الغامقتين الطافحتين بالدموع يؤثر به . احس برغبة في ان يجذبها الى صدره فيمرر انامله في شعرها البني الحريري ... يجدر به ان يطدرها على الفور. يجدر به ان يسلمها الى الشرطة ويقاضيها بتهمة التعدي على املاكه من دون اذن. لماذا تراه يتردد في ذلك؟ منذ لحظة معرفته بهوية هذه المرأة اخذت مشاعره تتأرجح بين الغضب الشديد واحساس اخر ؛ انها رغبة غريزية نوعا ما، ولا شك انها المسؤولة عن عدم قدرته على ابعاد عينيه عنها.
لطالما فضل خافيير النساء الطويلات القامة الانيقات المظهر اللواتي يتمتعن بأرجل طويلة وقامات رشيقة، اما غرايس بيريسفورد فهي قصيرة القامة نحيلة. انها امرأة غير مميزة بيشرتها الباهتة الفاتحة اللون وشعرها البني الذي تتخلله مشحات من اللون الذهبي الفاتح . غرايس ليست من النوع الذي يلفت النظر ، ومع ذلك فهنالك شيء ما في وجهها ... شيء من الصفاء والرصانة . لعل تلك الرسالة المخفية في عينيها الزرقاوين المدهشتين او الابتسامة المراوغة التي عرضتها أمامه قبل قليل هما المسؤولتان عن الالم الذي ينتابه في احشائه؟
قال ببرود وهو يجبر نفسه على التمشي بتكاسل وغير اكتراث نحو النافذة :" أمامك دقيقتان! مع ذلك يجدر بي ان احذرك بأن لدي فكرة جيدة عن الاسباب المؤدية الى مشاكل والدك المالية، ولا اعتبرها مبررا لاستغلالهالتقة التي وضعتها فيه".
قالت غرايس بألحاح :" ألا تعلم أنه مصاب بالأكتئاب المرضي، وانه لا يستطيع السيطرة على نفسه؟ كما انه ضحية لمجال المراهنة المتوفر عبر شبكة الإنترنت".
- إن قلبي يدمي من شدة الالم .
سخرية خافيير استفزت اعصاب غرايس ، فمشت عبر الغرفة لتقف امامه بحزم وصلابة . حين التوى حاجبا خافيير دلالة على عدم تصديقه قالت بشراسة :" والدي رجل طيب. إنه رجل محترم. منذ بضع سنوات قام ببعض الاستثمارات ، لكنه لسوء الحظ خسر الكثير من الاموال ".
رد خافيير بنبرة لاذعة :" لست افهم لماذا يجدر بي ان اعاني بسبب تهوره".
- كان يشعر باليأس . والدتي كانت مريضة جدا ، وكان هو مستعدا لفعل اي شيء ...اي شيء ... من اجل مساعدتها .
لم تتحرك تعابير وجه خافيير الدالة على لا مبالاته ، فمررت غرايس احدى يديها فوق وجهها من فرط يأسها. انها ليست قادرة على الوصول إليه ليتفهمها ، كما ان الوقت بدأ ينفد منها .
تابعت كلامها متلعثمة فقالت :" بدت له المراهنات السبيل الوحيد للخروج من مأزقه. كسب مرة او اثنتين، فأعتقد ان الحظ سيظل حليفه. لكنه عوضا عن ذلك بدأ يسجل على نفسه ديونا هائلة ".
تابعت بصوت خافت :" لم يعد لديه امل بان يسددها. أما بعد وفاة والدتي ، فغمره الالم اليأس الشديدين. الشيء الوحيد القيم الذي تبقى لدينا هو منزلنا الذي كان ملكا لوالدتي فأصبح ملكه بعد وفاتها. هدده الدائنون بالاستيلاء على منزل "ليتل كوت" فأراد بيأس التمسك به ... لأجلي''
قالت ذلك بصوت مخنوق ، محاربة دموعها التي اوشكت على ان تنهمر. تابعت قائلة :" عندئذ فعل انغوس مافعله . اخذ الاموال لأنه رغب بالاحتفاظ بالمنزل الذي احبه".
تدفقت الدموع من عيني غرايس ، ففركت عينيها بظاهر يدها. لم ترغب البكاء، لا سيما امام هذا الرجل الذي بدا كأن قلبه منحوت من الصخر الصلب.
علق خافيير بنبرة تدل على الملل :" إنها قصة مؤثرة ولا شك أنها تتضمن شذرات من الحقيقة . انا اصدق ان انغوس سرق الاموال من اجلك ، فأنت تتمتعين بذوق مرهف آنسة بيريسفورد "
طالبته غرايس وهي تشعر بالحنق :" كيف يمكنك ان تعرف ذوقي؟"
رماها خافيير بنظرة ازدراء وقال :" من الطبيعي ان اطلب تقريرا مفصلا عنكما ، لذا انا اعرف كل ما يجب ان اعرفه عنك . يبدو انك تحبين المقتنيات الثمينة"
اعلمها خافيير بذلك ببرود ، وتابع :" انت تقتنين كلبين اصيلين ، تأخذيهما الى صالونات التمشيط والتزيين الخاصة بهما ".
فتحت غرايس فمها لتعارضه ، لكنه تابع قائلا :" كما انك تابعت دراستك في جامعة متميزة ، من دون ان نذكر تلك الشقة الفخمة التي كنت تقطنينها اثناء وجودك في الجامعة "
ردت غرايس بحزم :" دفعت ايجار الشقة من اموال بوليصة تامين تركها لي جداي ...."
راح الغضب يفور في داخلها كالحمم البركانية . لكنها لو اطلقت هذا الغضب الكامن في داخلها ، فذلك سيفسد كل فرصها السانحة لمساعدة والدها . لذا تكلمت بهدوء قائلة :" ... وانا بالفعل عملت جاهدة لأجل الحصول على شهادتي ".
- في مجال تاريخ الفن؟ انا واثق انها شهادة مفيدة جدا لك .
الاستهزاء البادي في كلمات خافيير ، جعل غرايس تتوق الى صفعه ، لكنها ردت ببرود قائلة :" بما انك لا تعرف الكثير عني ، انا واثقة انك عرفت انني ادير متجري الخاص بالتحف الاثرية القديمة ".
رد خافيير :" اعرف انك تحبين لعب دور البائعة في مؤسستك الصغيرة الخاصة في برايتون ، لكن متجرك "ركن الكنوز" بالكاد يعتبر عملا ناجحا . اليس كذلك؟"
عبست غرايس ، فتابع هازئا منها :" آه ، بربك! أنت بالكاد تنتجين ما يكفي من المال ليغطي رأسيكما انت ووالدك ".
احمرت وجنتاها لدى سماعها ملاحظات خافيير حيال عملها الحديث العهد ، فتمتمت قائلة :" صحيح ان ارباحي لم تصل الى المستوى الذي املته ، لكن بناء سمعة جيدة في مجال العمل بالتحف الفنية يتطلب بعض الوقت ".
قبل ان تفتح غرايس متجرها الخاص احبت عملها كموظفة مبتدئة في مجال الفهرسة والتوثيق لدى دار مرموقة للبيع بالمزاد العلني . لكن حياتها في لندن اصطدمت بعقبة مفاجئة كادت تحطمها ، وذلك حين انهت خطوبتها بريتشارد كونيتين . خيانة ريتشارد جعلتها محطمة الفؤاد ، فعادت الى برايتون حيث افتتحت "ركن الكنوز" بمساعدة والدها . لكن الاعمال سارت ببطء خلال العام الاول ، ولم يبقى لديها سوى القليل من المال بعد دفع الفواتير المتوجبة عليها ، لذا سمحت لوالدها بمساعدتها ماليا في بعض المناسبات .
لطالما استمتعت غرايس بنمط حياة مريح جدا ، لكنها احست بشعور سيء عندما ادركت ان والدها دفع ثمن هذا الرخاء بواسطة الاموال التي سرقها من المصرف . احست بالسقم من شدة الخجل والحرج ، فرفعت عينيها نحو خافيير الذي راح يراقبها من دون ان تظهر اية ملامح على وجهه . بدت عيناه الذهبيتان محجوبتين برموشه الطويلة ، فلم تظهرا اي لمحة عما يجول في خاطره . تكلمت بصوت ابح قائلة :" يجدر بي ان اشاركه في تحمل اللوم على هذه الورطة المريعة التي وقع بها . والدي اختلس من المصرف ، ليس فقط لاجل علاج والدتي ، بل لأنه لم يرغب بحرماني من نمط العيش الذي كنت معتادة عليه . لا يمكنك ان تتصور كم يجعلني هذا الامر اشعر بالسوء ".
تشدق خافيير بسخرية :" اتصور انك منزعجة جدا لانه يتوجب عليك تغيير نمط حياتك . لابد ان فقدانك للمصدر الاساسي لمدخولك امر مزعج جدا وغير مريح بالنسبة لك . لكنني اخشى ان مصرفي
-وبفضل خفة يدي والدك وطولهما- لم يعد مستعدا لتغطية نفقات مصروفك المفرط ".
تملك الغضب الشديد غرايس ، وظهرت نبرة حادة في صوتها حين قالت :" أتشير الى انني كنت اعلم بمايجري؟"
وجه إليها نظرة باردة قائلا لها :" هل تتوقعين مني ان اصدق بأنك ماكنت تعلمين ؟ انا لست غبيا آنسة بيريسفورد . يبدو بوضوح انك تحركين والدك كما تشائين بمجرد حركة من اصبعك . أما الان ، ومع انهيار عالمك الصغير المشبع بالدلال والرفاهية ، فقد اصابك الهلع ".
اكمل بوحشية :" ما الذي املت بتحقيقه عبر مجيئك الى هنا؟ اتتوقعين مني التغاضي عن اختلاس مبلغ ضخم كهذا ؟ قد تجدي دموعك نفعا حين تستخدميها مع والدك ، لكنها لا تؤثر بي مطلقا ".
اضاف بخشونة فيما توجهت نظراته نحو الساعة المعلقة على الحائط :" انتهت الدقيقتان المخصصتان لك ".
خاطبته غرايس بهلع قائلة :" جئت لأعرض عليك تسديد الاموال التي اخذها والدي منك . وافقت على بيع المتجر ومنزل "ليتل كوت" . اذا جمعت المبلغ الذي سأحصل عليه مع الحصص التي تركتها لي والدتي ، يمكنني ان اجمع مليوني جنيه".
سألها خافيير ببرود :" وماذا عن المليون الاخر ؟"
- انا اتحدث الاسبانية بطلاقة . ربما ... يمكنني العمل في المصرف الى ان يتم تسديد الدين ... من دون راتب بالطبع .
اضافت غرايس كلماتها الاخيرة بتسرع بعد ان رمقها خافيير بنظرة استهزاء . ما لبث ان صرح بخشونة :" يا الهي ! هل تظنين انني قد اسمح لك بالبقاء على مقربة من مصرفي ؟ يكفيني فرد واحد من ال بيريسفورد . ثم .... كيف يمكنك ان تعيشي من دون اي مدخول ؟ تسديد مبلغ مليون جنيه يتطلب اعواما واعواما ، حتى لو حسمنا الفائدة المتراكمة . ان الفكرة سخيفة ومضحكة . لا شيء يمكن ان يثير اهتمامي ولو بشكل ضئيل ".
انزلقت نظراته سريعا فوق جسدها كأنه يصرفها من امامه . بالرغم من كل شيء ، لم تقو غرايس على منع ارتعادة من العبور خلال جسدها . ما خطبها؟ كيف عساها سمحت لهذا الرجل من بين كل الرجال ان يؤثر فيها الى هذا الحد؟ انها بالكاد تستطيع ان تفكر بصواب .
فكرت غرايس انه يجدر بها ان تركز على انقاذ والدها من الحكم الذي سيودي به الى السجن . لا شيء اخر يهمها ، لا سيما ذاك الاحساس الغريب المشابه لرفرفة الفراشات في معدتها ، والذي انتابها عندما تحرك خافيير عبر الغرفة سائرا نحوها .
همست قائلة :" والدي سينهار لو تم ارساله الى السجن . جعلته وفاة والدتي رجلا محبطا مكسور الفؤاد ، ولا اظن انه يستطيع تحمل المزيد من الصدمات . انا اخشى بأنه قد ينهي حياته بيده ، لذا اتوسل اليك كي تظهر اللين والتساهل معه ".
ارتعش فم غرايس فعضت على شفتها السفلى بقوة. الدوق دو هيريرا قال لها للتو ان الدموع لا تؤثر فيه ، لذا فهي بحاجة لأن تكون هادئة ومتحكمة بمشاعرها. تابعت تقول :" سوف افعل اي شيء تطلبه ، اذا وافقت على عدم ملاحقته قانونيا ".
ارتفع حاجبا خافيير وقد بدا استمتاعه واضحا . فسألها :" اي شيء؟ يجدر بي ان افهم انك تعرضين خدماتك؟ كم ليلة من الشغف يمكنها ان تعوضني عن المليون جنيه برأيك؟"
سمح خافيير لعينيه بأن تتأملا جسدها ببطء ، ملاحظا وجنتيها القرمزيتين ، كما لاحظ ارتفاع صدرها وهبوطه بسبب الهلع .
ردت غرايس بكلمات لاذعة :" لم اعن ... ذلك! بل املت ان نتوصل الى اتفاق من نوع ما .... "
قطعت كلامها وقد ادركت بمرارة انها لا تملك اي شيء ثمين لتعرضه على دوق مليونير بأستثناء جسدها . لكن كيف عساه تجرأ على الاعتقاد بأنها تعرض عليه ذلك الامر؟ اغمضت عينيها بضعف حين تقدم خافيير ليقف على مقربة منها . اقتحمت احاسيسها رائحة خافيير وتسللت الى انفها رائحة عطر مسكي خفيف . بدأت الدماء تتدفق بقوة الى في عروقها فترنحت مائلة نحو خافيير بأرتباك واضح .
التمعت عيناه الذهبيتان فيما اقترح بصوت حريري :" لعلك لن تجدي معاناة في مشاركتي السرير ، فما اراه في عينيك المعبرتين بدعوتي الى الاعتقاد بأنك متلهفة لذلك ".
استنشقت غرايس الهواء بحدة ، ثم همست وهي تتلوى خجلا :" انت مخطئ في ذلك "
تراجعت الى الوراء خطوة ، لكن خافيير الامساك بذقنها ، ثم رفع وجهها بحيث لم يعد لديها اي خيار سوى ملاقاة نظراته .
- انا لست اعمى ، انسة بيريسفورد. يمكنني ان ارى كيف يسود لون عينيك حين تنظرين الي ، كما ارى ارتعاشة جسمك.
قال ذلك متمتما وقد تبدلت نبرة صوته فجأة فصارت مخملية ناعمة ، ثم تابع :" كلانا مدركان لهذا الانجذاب المتبادل بيننا و .... دعينا نواجه الامر ،فهناك اساليب اسوأ من هذه لكسب المعيشة".
يا الهي! هل يتكلم بجدية ؟ اتراه حقا يقترح بأن تصبح هي عشيقته؟ احست بأناملها تستحكها حتى تصفع تلك التكشيرة المتعجرفة البادية على وجه خافيير ، فأنجرفت تقول بكلمات لاذعة :" هذا خيار لن آخذه بعين الاعتبار . افضل ان اموت اولا".
اطلقت قهقهة خافيير الخافتة اللهب في اعصاب غرايس . ثم قال ساخرا :" اذا ، من حسن حظنا معا انني لا اميل الى العذاري اللواتي يقدمن انفسهن كأضاحي ".
طرفت غرايس بعينيها ، وغمر اللون الاحمر وجنتيها. كيف عرف انها عذراء؟ هل استطاع استنتاج ذلك؟ هل طبعت جملة " لم تلمس قط" كالوشم فوق جبهتها؟
اعلمها خافيير بتعجرف :" انا لم اجر المقايضات ابدا من قبل بهدف الحصول على هذه الخدمات ، ولا نية لي مطلقا بأن ابدا الان "
استقرت يده بثقل على كتف غرايس ، فأدارها بحزم نحو الباب ، قائلا :" لقد هدرت وقتي بكا فيه الكفاية ، لذا اقترح ان تعودي الى منزلك وتوظفي خدمات محام جيد . انغوس سيكون بحاجة اليه".
منطق غرايس حذرها بءن الصمت هو خيارها الافضل للحفاظ على عزة نفسها . لكنها احست ان عزة نفسها ممزقة ، فهي لم تشعر بغضب مماثل ابدا طيلة حياتها. قذفت الكلمات نحو خافيير كتيار غاضب ، لانها فشلت بتغطية خيبة املها لفشلها في مساعدة والدها ، فقالت له :" انت عديم القلب تماما . اعلم ان انغوس اخطأ بفعلته ، وهو يعرف هذا ايضا . لو كان بمقدورك ان تراه ، لأدركت ان الشعور بالذنب دمره . لكنه اخذ هذه الاموال لأنه لم يستطع رؤية اي سبيل اخر "
ارتعش صوت غرايس بسبب الاحاسيس المريرة ، فيما تذكرت الاسابيع الاخيرة الصعبة من حياة والدها ، وتذكرت حزن والدها الشديد لأنه لم يتمكن من انقاذ محبوبته سوزان .
عبرت تعابير وجه خافيير الضجرة عن قلة اهتمامه ، فأستسلمت غرايس وقالت بمرارة :" انت لا تملك اي فكرة عن الحياة الواقعية . اليس كذلك؟ فءنت ولدت وريثا لثروة هائلة لايمكن تصورها ، وتقبع هنا في قصرك حيث تلعب دور الحاكم المسيطر على الاخرين . اتعلم شيئا ؟ انا اشعر بالأسف عليك فأنا لا اظن انك اختبرت الحب او ان احدهم احبك يوما".
اقترب حاجبا خافيير من بعضهما في عبوس ، لكنه فتح الباب ودفع غرايس نحو الرواق . مشفت ابتسامة واسعة عن اسنان بالغة البياض . قال لها :" ربما انت على صواب . لكن دعيني اؤكد لك ان هذا النوع من العلاقات مع الناس يناسبني تماما . وداعا انسة بيريسفورد".
-مهلا!
كاد الباب ينغلق ، فحشرت غرايس قدمها بسرعة في الفجوة وهي تدرك تماما كم يسهل على خافيير ان يسحق عظامها . سألته بيأس :" هل تريدني ان اتوسل؟ اهذا هو الامر؟ سوف افعل ذلك ان كان هذا الامر ينقذ والدي "
رمت عزة نفسها جانبا، وسقطت على ركبتيها فيما قالت :" لن اسمح بأن يدخل والدي السجن . لابد ان تكون هنالك طريقة ما يمكنني ان أفيدك بها ... سوف اطهو ، انظف ... "
ألقت نظرة على طول الرواق نحو الارض الحجرية التي بدت كأنها تمتد لأميال ، وتابعت :" سوف انظف ارضيات منزلك . سوف افعل اي شيء ... ما دام لا يخرج عن حدود الاخلاق ".
عضت غرايس بقوة على شفتها السفلى الى ان احست بطعم الدم في فمها وهي تحدق بخافيير راجية اياه ان يمنحها فرصة . تصلب فك خافيير واخذت عيناه الذهبيتان تخترقان جلدها وتحرقانه، فيما سمح لنظراته ان تمر بشكل متراخ فوق فستانها الصيفي الاصفر . بدت له روح البراءة التي تتمتع بها مثيرة للاهتمام ، إلا ان المنطق كان يقول له بأن ذلك لا يمكن ان يكون حقيقيا بالفعل . بحسب التقارير التي وصلته عنها ، علم خافيير ان غرايس حظيت بنصيب لا بأس به من العلاقات العاطفية، وانها كانت على علاقة مع سمسار ناجح في مجال التأمين يدعى ريتشارد كونيتين . انه يكبرها بعدة سنوات ، ويتمتع بسمعة في ارجاء لندن تقول انه زير نساء . يقول التقرير ان غرايس كانت مخطوبة الى كونيتين لفترة وجيزة ، ولابد إنهما كانا عشيقين . لماذا عساها اذا تزعج نفسها بأدعاء الخجل كالعذاري؟ ولماذا بحق الجحيم لم يتخلص منها بكل بساطة؟
استفهم خافيير بخشونة :" لماذا جئت الي؟ لما لا تعرضين ...."
تمهل بالكلام سامحا لعينيه بالتباطؤ وهما تتأملانها ، ثم تابع :" ... خدماتك على رجل ثري آخر ؟"
اجابت غرايس ببلادة ذهن وفظاظة :" لقد نفدت مني الخيارات . سينيور هيريرا ، انا جدية بخصوص تسديد جميع ما أخذه انغوس من اموال .... كل قرش منها "
اضافت بشراسة عندما رأت ان خافيير ليس متأثرا بكلامها :" لا اعرف كيف سأفعل ذلك بعد ، لكنني سوف اسدد ديون والدي بشكل ما . جل ما اطلبه هو ان تمنحني الوقت، وان تعطيني موافقتك بتسوية الموضوع خارج اطار المحكمة ".
غمر خافيير شهور بالانزعاج لسبب مت لدى مشاهدته منظر غرايس راكعة امامه فأطلق شتيمة ثم اندفع مبتعدا عنها . صوت المنطق يقول له ان غرايس فاسقة انانية اجبرت والدها على استغلال موقعه في المصرف لتحافظ على نمط حياتها المبذر المسرف . لكنها تبدو لطيفة حقا حين تنظر اليه بهاتين العينين الواسعتين ذات اللون الياقوتي الازرق . من جهة اخرى، سلم خافيير بأن غرايس تتمتع بروح مميزة . ولابد انها تحب والدها حبا جما ، كي تأتي الى هنا للدفاع عن قضيته . انها لا تستحق احترامه او تعاطفه ، لكن ما ازعجه هو احساسه بهذين الشعورين. فجأة تسللت الى ذهنه فكرة ، انه ليس بحاجة الى طباخة او الى عاملة تنظيف ، لكنه بحاجة الى زوجة . التوى فمه بأبتسامة ساخرة ما ان تذكر الشرط الذي فرضته وصية جده عليه.
تكلم خافيير ببرود وهو مدرك للاحساس الغريب الذي يعتمل في صدره ، فيما راقبها وهي تنهض على قدميها مرتعشة . قال لها :" انهضي آنسة بيريسفورد. أتقولين إنك مستعدة للعمل لأجلي مقابل اسقاطي لكل الاجراءات القانونية التي اتخذتها ضد والدك؟"
بدأ الامل يتسلل الى صدر غرايس فيما تعثرت وهي تتوجه اليه . طمأنته مؤكدة بحماس :" نعم. قلت لك انني سوف افعل اي شي ".
ساد بينهما صمت يشوبه التوتر ، الى ان تكلم خافيير اخيرا فقال :" في تلك الحالة افترض انك لا تمانعين في ان تصبحي زوجتي؟"
تصريح خافيير الخالي من المشاعر قلب عالم غرايس على عقب. جذبت الهواء بصعوبة الى داخل رئتيها ، ثم تمتمت بصوت كئيب :" أنت تمزح. اليس كذلك؟"
بدأت الدموع تخز عينيها وهي تتوقع ان تسمع ضحكته الساخرة . لكن كلماته التالية جعلتها ترفع رأسها . أعلمها خافيير بأيجاز :" هذه ليست مزحة ، فأنا في موقف لا احسد عليه . يفترض بي ايجاد زوجة قبل عيد مولدي التالي ، وعلي ان ابقى متزوجا من المرأة التي اختارها لمدة سنة".
تمتمت غرايس وقد اصابها الذهول :" ومتى يحين عيد مولدك؟"
-بعد شهرين من الآن .
-اذا ، فالامر مستعجل الى حد بعيد.
بدا لغرايس ان هذا الموقف بأسره يميل الى السوريالية، واحست كما لو انها تائهة في صفحات كتاب "اليس في بلاد العجائب".
راح خافيير يراقبها مشككا بعينيه الذهبيتين المدهشتين. بدت غرايس مدركة بقوة للارتعاش الذي انتابها بسبب الانجذاب الذي تردد بينهما . احست لوهلة برغبة في الهروب من هنا ، لكن النبرة الامرة البادية في صوته منعتها من ذلك.
-اجلسي آنسة بيريسفورد . افترض أنه تجدر بي مناداتك غرايس بما اننا اصبحنا مخطوبين.
ردت غرايس بنبرة لاذعة وقد اغضبها اسلوبه المتسلط :" انا لم اوافق بعد".
رماها خافيير بنظرة تنم عن الضجر ، وقال :" لكنني ظننت ان الخيارات نفدت منك ".
-نعم. انها كذلك، لكن يبدو انك في وضع مماثل.
جلست غرايس على احدى الكراسي وهي تشعر بالامتنان ، محاولة استعادة رباطة جأشها . ادركت بفضل حاستها السادسة بأن تعابير وجه خافيير الباردة اللامبالية هي مجرد ستارة لما يخفيه من الاحباط الداخلي . يبدو انه مجبر على ايجاد زوجة لسبب تجهله، لذا فهو بحاجة اليها بقدر ما هي بحاجة اليه ، وهذا الامر يضعها في موقع قوي يسمح لها بالمساومة.
سألته :" لماذا يجدر بك ان تتزوج؟"
لبرهة قصيرة اعتقدت انه سيرفض الرد عليها. توهجت عيناه بغضب مفاجئ ، ثم قال :" بحسب شروط وصية جدي يجب علي ان اتزوج ، والا فأنني سأفقد حقي في ادارة مصرف هيريرا لصالح نسيب لي"
اخبرها ذلك فيما بدا صوته ممزوجا بالمرارة.
-يبدو ان المصرف مهم جدا بالنسبة اليك .
صحح لها خافيير بشراسة :" إنه حقي بالولادة ، وهو الشيء الوحيد المهم بالنسبة الي".
قالت غرايس بعد تردد :" فهمت. لكن مما سمعت ، انت لا تفتقر الى النساء في حياتك . لماذا اذا لاتطلب من احداهن الزواج بك؟"
اقر خافيير بنبرة فظة جعلت غرايس تجفل :"سيكون الامر اشبه بالجحيم حين يأتي وقت الدفع للتخلص منهن. هذا الزواج هو بمثابة عرض عمل لا اكثر ، لكن ذكر كلمة "زواج" امام غالبية النساء ، يجعلهن يقفزن الى التصور المضحك السخيف للحب".
قالت غرايس ببطء وهي تحاول استيعاب مايجري :" أتعني ... أنك اذا اخترت احدى صديقاتك الحميمات ، فأنك تخشى.... أن تقع في غرامك؟ ان غرورك كبير الى حد يخطف الانفاس . ما الذي يجعلك تعتقد بأنك مميز الى هذا الحد؟"
رد خافيير بنبرة جافة :" ثروتي التي تقدر بعدة ملايين من الجنيهات. تعلمت في سن مبكرة من عمري ان المال هو اكثر ما يثير شهية النساء . اليس هذا هو سبب وجودك هنا؟"
اردف بصوت حريري :" انت تريدين مني ان ان اسقط التهم الموجهة الى لص كافأ ثقتي به بالخيانة، مستغلا الموقع الذي وهبته له".
أحست غرايس ان وجنتيها تتوردان خجلا ، فقالت بصوت ابح :" ليس الامر كذلك . قلت لك ان والدي كان في حالة يأس تام، ولم يجد امامه خيارا اخر"
دفع خافيير كرسيه الى الوراء ثم دار حول مكتبه متجها نحو غرايس، فأحست هذه الاخيرة فجأة ان جاذبيته الحادة تغمرها . تسارعت نبضات قبلها عندما اسند وركه على حافة المكتب وانحنى ليدنو منها ، آسرا عينيها بنظراته. واذهلتها قوة كلماته اذ قال :" جميعنا نملك الخيارات ، غرايس. يمكنك ان تختاري منحي سنة من عمرك مقابل إعفائي والدك من الملاحقة القانونية ومن فترة حكم طويلة بالسجن".
فكرت غرايس مذهولة ان عينيه اشبه بعيني النمر ، فيما حدقت في عمقهمها الكهرماني المتوهج.
همست قائلة :" لا اظنني قادرة على فعل ذلك. الزواج ارتباط مقدس مميز. إنه اتحاد شخصين يقفان امام الله ويتعهدان بأن يحب كل منهما الاخر طيلة حياتهما. أما ما تقترحه انت فهو .... لا اخلاقي"
تمتم خافيير متهكما :" وهل اختلاس ثلاثة ملايين جنيه اخلاقي؟ اظن ان من الافضل ان نضع جانبا التساؤل حول مدى الاخلاقية في هذا الامر، غرايس. انت ترغبين بأن يعفى والدك من الحكم بالسجن ، وانا استطيع مساعدتك في ذلك".
اظهرت الارتعاشة في شفتها السفلى توترها ، فيما تصلب فك خافيير وقال مزمجرا بنفاد صبر :" ان تصبحي الدوقة دو هيريرا، اليس خيارا افضل من قيامك بتنظيف الارضيات لدي؟"
تمتمت غرايس متجاهلة النظرة الساخرة البادية على وجهه :" لا احبذ فكرة الكذب"
حسنا ! ماهي الخيارات التي تملكها حقا؟ ان لم توافق على الزواج من خافيير لاشك ان والدها سيدخل السجن. يجدر بها ان تفعل هذا. قالت من دون تفكير :" حسنا! اوافق على عرض العمل الذي تقدمه لي. سأصبح زوجتك لمدة سنة ، لكن مقابل ذلك اريدك ان تلغي كل الديون المترتبة على والدي، وتسدد المبلغ المتوجب عليه الى المصرف من حسابك الخاص".
تابعت بصوت خال من الاحاسيس ، آملة ان يخفي ذلك حقيقة ان قلبها يدق بقوة في صدرها :" واريدك ان تسقط كل التهم الموجهة ضد والدي . حين تفعل ذلك ، سأصبح انا عروسك".
تحرك خافيير بسرعة كما لو انه نمر كبير يطبق على فريسته ، فوضع كلتا يديه على المسندين الموجودين على جانبي كرسيها، قال لها بوحشية :" انت تعطين قيمة كبيرة لنفسك ، آنسة بيريسفورد . يبدو انك نسيت انني انا من يضع الشروط هنا . ماذا ستفعلين لو قلت انني كنت اخدعك ، وانني سأرميك خارجا من دون اي فلس؟"
آه يا الهي! هل سيفعل ذلك؟ اخذت غرايس نفسا مرتعشا واجبرت عينيها على ملاقاة نظراته الثاقبة ، ثم تكلمت بصوت كذب توترها الصارخ قائلة :" لن تفعل. فأنت بحاجة الي بقدر ما انا بحاجة اليك، واستطيع ان اؤكد لك تماما بأنني سوف ابدأ بعد الساعات التي تفصلنا عن الطلاق بشوق بالغ منذ اليوم الاول لزواجنا . لا مجال ابدا لأن اغرم بك ".
قالت غرايس ذلك وهي تحني ذقنها بحيث اصبح وجهها على بعد انشات قليلة من وجهه. استطاعت ان تشعر برغبته في ان يخضعها لأرادته، لكنها ترفض ان يخيفها او يرعبها . اذا كان يتوجب عليها ان تصمد سنة لتلعب دور زوجته ، فهي لا تستطيع ان تسمح له بالسيطرة عليها .
ساد توتر حاد جدا بينهما ، وبدا كأن الهواء الموجود بينهما يفرقع بشحنات كهربائية. شعرت غرايس بالحرارة المنبعثة من جسده تغمرها ، فحدقت في عينيه وعلمت انه يشعر بالرغبة في معانقتها. كتمت شهقة كادت تخرج من فمها حين اخفض خافيير رأسه ببطء. احست ان جفنيها ثقيلان وان رموشها تنخفض فوق عينيها . لكنها عادت وفتحت عينيها مجددا حين امسك خافيير بسرعة قبضة مليئة من شعرها الطويل عوضا من معانقتها ، ما جعلها ترفع رأسها بقوة الى الاعلى .
لدى رؤية تعابير وجهها المصدومة ، التوى فم خافيير مظهرا ابتسامة اطلعتها انه مدرك لخيبة املها . قال لها :" انت لست تلك الزهرة الهشة كما اعتقدتك . اليس كذلك غرايس؟ ان جمالك الرقيق يخفي عقلك المخادع الذي يكاد يتطابق مع عقلي انا".
وقبل ان تحظى غرايس بوقت لتتفاعل مع ما قاله، اقترب خافيير منها وعانقها عناقا وحشيا مطالبا بتجاوبها ، كما لو ان ذلك حقه .
بعد قليل افلتها ثم استقام في جلسته ، فيما التمعت عيناه الذهبيتان . أضاف بسخرية :" اتفقنا انسة بيريسفورد. سوف نتزوج حالما نستطيع ترتيب الامر. يخالجني شعور بأنها سوف تكون سنة مثيرة للاهتمام ".
احست غرايس كما لو ان يدا باردة ملؤها الجزع والخوف تطبق على قلبها ، لكنها اجبرت نفسها على النهوض ، فوجهت له نظرة جليدية ثم قالت :" اتوقع ان تكون اسوأ سنة في حياتي".
اجابها بنبرة جافة :" انا واثق انك ستجدين ما يعوضك بكونك زوجة لرجل مليونير . فكري بكل التسوق الذي يمكنك ان تنهمكي فيه".
استدار خافيير حول مكتبه ، ثم رفع سماعة الهاتف وزمجر سلسلة تعليمات. ادركت غرايس انه لم يعد يوليها اي اهتمام ، وانه عاد الى ممارسة عمله بعد ان حل مشكلة ايجاد زوجة له. افترضت انه سوف يصرفها من هنا حتى يحين موعد الزواج الذي سوف يربطهما سويا بشكل قانوني. لا بأس، فوالدها سوف يصبح حرا، ويجدر بها ان تتمسك بهذه الفكرة المريحة خلال السنة القادمة . بدأت بالانسحاب نحو الباب شيئا فشيئا ، الى ان اوقفها صوت خافيير الجاف المقتضب، حيث قال :" الى اين تظنين نفسك ذاهبة؟"
غروره وعجرفته جعلاها تغلي من الداخل ، لكنها لم تجرؤ على ازعاجه . ابتسمت غرايس بتردد، وقالت :" سوف اجد سيارتي واقود عائدة الى غرناطة . هل تريدني ان انتظر هنا لعدة ايام ام اعود الى انكلترا وانتظر حتى تتصل بي؟"
أجابها خافيير ببرود :" لا هذا ولا ذاك . انا مغادر الى مدريد خلال دقائق وسوف ترافقينني ".
0 comments:
Post a Comment